الاقتصاد والإحصاء

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي *

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

بين الاقتصاد والإحصاء "عروة وثقى" وحلف متين، فلا تحليل اقتصاديا سليما ذا معنى بدون إحصاءات موثوقة. وقد وصف البعض علم الاقتصاد بأنه علم كئيب dismal science، بسبب ما جاء في نظرية توماس مالثوس حول النمو السكاني والاقتصاد، أو بسبب نظرية جون ستيورت ميل حول غنى بعض الدول وفقر دول أخرى. ورغم أن الإحصاء أيضا في حد ذاته أرقام صماء كئيبة وبينه وبين "علم الاقتصاد الكئيب" علاقة حميمة، إلا أن توافر الإحصاءات وتنوعها يستثير الاقتصادي ويغريه على البحث والتحليل.

وقد أَوْلَت سلطنة عُمان الإحصاء عناية كبيرة منذ السنوات الأولى لنهضتها الحديثة، فأسست في منتصف سبعينيات القرن الماضي سجلات وإدارة للإحصاء تتبع الجهة المعنية بالاقتصاد والتخطيط، ثم أنشأت قبل حوالي عشر سنوات المركز الوطني للإحصاء كجهة مستقلة. وكان للدكتورة راجحة بنت عبدالأمير -رحمها الله- دور كبير في تأسيس وتطوير الإدارة والسجلات الإحصائية في السلطنة. وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي أدخل معهد الإدارة العامة ضمن برامجه التدريبية برنامجَ دبلوم مدته سنتان لتدريس الإحصاء، وذلك لسد جانب من العجز في هذا التخصص.

وتأسيسًا على تلك الجهود، تمكَّنت السلطنة من إجراء ثلاثة تعدادات سكانية، كما تقوم منذ سنوات عديدة بإجراء مسوحات لكثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية؛ من أهمها: مسوحات الأرقام القياسية لأسعار السلع والخدمات، أو ما يعرف بمؤثر التضخم في الأسعار. كذلك تقوم بين فترة وأخرى بإجراء مسح لنفقات الأسرة، وهو مؤشر إحصائي مهم جدا لوضع السياسات والخطط التنموية، خاصة في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. كما يتم بصورة منتظمة إصدار "الكتاب الإحصائي السنوي"، الذي يحوي الحسابات القومية للسلطنة وإحصاءات اقتصادية واجتماعية وبيئية متنوعة.

وقد تمكَّنت السلطنة بفضل هذه الجهود والخبرات الوطنية التي تبنتها من الفوز باستضافة المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون وأصبح مقره مسقط؛ وذلك اعترافا من بقية دول المجلس بسبق السلطنة في هذا المجال.

ويحوي "الكتاب الإحصائي السنوي" -الذي يصدره المركز الوطني للإحصاء- كمًّا كبيرًا من الإحصاءات والأرقام التي تستثير الاقتصادي وتغريه على البحث في عدد كبير من قضايا التنمية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويحمل الإصدار الأخير من هذا الكتاب الرقم 48، وهو يتضمن إحصاءات وبيانات عن العام 2019 وعن أعوام أخرى سابقة بعضها يعود إلى العام 2010. يقع الكتاب في عشرة فصول مُقسَّمة إلى 21 قسما، ويبدأ بمعلومات عامة ثم معلومات عن السكان والمساكن ثم عن إحصاءات عن القطاعات الاقتصادية المختلفة، سواء القطاعات الإنتاجية أو الخدمية. وكل فصل وقسم، بل بالأحرى كل جدول إحصائي في الكتاب، يثير تساؤلات ويغري الاقتصادي بالبحث فيه وتحليله. كما يجد الباحثون في الاقتصاد الكلي macro economic، لا سيما في الفصل 9 المتعلق بالاقتصاد والمال، وتحديدا في قسم الحسابات القومية، مادة خصبة للبحث؛ حيث يظهر هذا القسم الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية وبالأسعار الثابتة، ومعلوم أن هذا المؤشر هو أهم مؤشرات قياس النمو الاقتصادي، ويظهر فيه كذلك مؤشر نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي. هذا إلى جانب مؤشرات أخرى تتعلق بإسهامات القطاعات المختلفة في الناتج المحلي الإجمالي، سواء القطاعات الإنتاجية؛ مثل النفط والغاز والزراعة والأسماك والصناعة، أو القطاعات الخدمية؛ مثل تجارة الجملة والتجزئة والنقل والتخزين والصحة والتعليم...إلخ.

ومع أنَّ الإحصاءات في السلطنة قد وصلت إلى مستوى متقدم من الدقة والتفصيل، لكن التقدم الحاصل في التقانة والتغير الذي يطرأ على البنية المؤسسية في البلاد يتطلبان تحديثا مستمراً لمنهجية الإحصاء والبيانات التي يتم جمعها، وكذلك إعادة تبويبها وإضافة بيانات وتفاصيل جديدة. فعلى صعيد التغير في البنية المؤسسية والإدارية للدولة، تم في العام الماضي تطبيق "نظام المحافظات" وهو نوع من اللامركزية في الإدارة المحلية، له إبعاد تنموية كبيرة، كما أن ظهور قطاعات اقتصادية جديدة مثل قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، أو الخدمات المتعلقة بالتقانة والبرمجيات أو بالتجارة الإلكترونية، وكذلك تحديث السياسات الحكومية في مجالات مثل أنظمة التقاعد، أو إنشاء هيئة للمناطق الحرة، وغير ذلك من الأمور التي لها تأثير مباشر على التخطيط التنموي وعلى الحسابات القومية، فإن ذلك لابد أن يواكبه تغيير في نوعية الإحصاءات والبيانات وفي طرق تصنيفها وعرضها. فعلى سبيل المثال لا بد من إعادة تصنيف جدول الحسابات القومية من أجل إظهار إسهامات قطاع السياحة وقطاع الإمداد (اللوجستي) بحيث يكون كل منهما مستقلًا عن بند قطاع الخدمات الذي يشمل خدمات كثيرة، مثل الصحة والتعليم وغيرهما، خاصة إذا كانت الأنظمة الإحصائية الدولية التي تتبعها السلطنة تسمح بذلك. كما أنه من المفيد وضع النسبة التي يسهم بها كل قطاع في الناتج المحلي الإجمالي، وليس فقط نسبة التغير الذي تطرأ عليه سنويا بالزيادة أو النقصان. صحيح أنه يمكن حساب هذه النسب من خلال البيانات الموجودة، لكن يُستحسن إبرازها للتسهيل على القارئ والمحلل. ومن المناسب كذلك إصدار إحصاءات شهرية عن فرص العمل الجديدة التي يولدها الاقتصاد نتيجة النمو، وكذلك عدد الوظائف التي فقدها الاقتصاد، سواء كان يشغلها عمانيون أو أجانب، لمعرفة ما إذا كان ذلك نتيجة تباطؤ في قطاع ما أو نتيجة إحلال الآلة محل الإنسان. هذا بالإضافة إلى إحصائية شهرية بعدد ونوعية السجلات التجارية أو الأعمال الجديدة التي بدأت؛ لمعرفة القطاعات التي ينمو فيها الاقتصاد. كذلك لابد من إعادة تبويب بعض الإحصاءات، بما فيها الحسابات القومية، على أساس جغرافي محلي، من أجل مساعدة متخذي القرار والمخططين في كل محافظة أو ولاية على وضع السياسات المناسبة التي تخدم التنمية في المحافظة، مع مراعاة أن لا تخل إعادة التصنيف بالتسلسل الزمني للاحصاءات؛ لأهمية ذلك في الدراسات الإحصائية ولتتبُّع مسار التنمية خلال الأعوام السابقة.

وللتذكير.. فإنَّ الإحصاءات الوطنية هي من السلع العامة public goods مثل مياه الشرب والهواء النقي، ويجب أن تكون متاحة للجميع، وأن تكون مفصلة وشفافة قدر الإمكان.

تعليق عبر الفيس بوك