صناعة القدوات السلبية

 

د. صالح الفهدي

 

سَخِرَ الناس منه لأنه لم يُحسن صياغةَ كلامه، فعتبنا عليهم ذلك بعد أن تعاطفنا معه، ووضعنا لذلك أسباباً كثيرة، إلاَّ أننا تفاجأنا بأنَّه استمرأ التمثيل فانغمس ممثلاً في مقاطعَ أو مروِّجاً لمشروع تجاري..! تلقَّفَ هو تلك السُّخريةَ بترحاب لذيذ، وبدأ ينسجها حكايةً مُقنعةً لنفسه، فقد وجدها باباً للشهرة، وربما "للمال"..!

نفس القصة –وفق السيناريو نفسه- حدثت للشاعرِ الشعبي الذي سخر منه النِّاس في أحد اللقاءات التلفزيونية حين ضحكت المذيعة، فكانت ضحكتها سبباً لانتشار المقطع، وشهرة الرجل الذي ترقَّى من شاعرٍ مغمور إلى شاعرٍ مشهور يفتتح المحلات التجارية، ويُشارك في المناسبات الشعرية حيث يتقدم اسمه بقية الشعراء، ويصبح أيقونةً الاحتفالات، وسبقهم ذلك السكران الذي انتشرت مقاطعه، يتندَّر الناس عليها، فإذا رأوه في مركز تجاري هرعوا للتصوير معه..! التصوير مع من؟ مع سكران لا يملك إلا قنينةَ خمرٍ وكلامٍ ليس له أساس..! والقصة ذاتها للفتاة التي تدَّعي (التحرُّر) وتنتهك التابهوات التي لا يجرؤ المجتمع على انتهاكها ليس لأنها مجرَّد أعراف وإنما هي عقيدةٍ راسخةٍ فيه، ثم حين يرونها يتدفقون نحوها لالتقاطات مع صاحبة الإنجازات العلمية أو الاجتماعية العظيمة..!! والأمر نفسه مع المتهمُ بالخبلِ؛ صاحبُ العين الذي أحرج الكثيرين وسخر منهم..!!

بهذه الوسيلة الساخرة يُولِّد المجتمع قدواتهُ السيئة بإرادته، دون أن يعي، ويجعل من العاهات والعيوب مفاتيح لهم، حتى أصبحَ بعض التجَّار هم أوَّل من يدعونهم دون اكتراثٍ بالقيم الأخلاقية والوطنية للترويج لهم فهؤلاءِ همَّهم شهرة الآخر بغضِّ النظرِ عن ماهية تلك الشهرة، ولهذا رأيناهم يفتتحون المشاريع بصفتهم (نجوماً) في المُجتمع، ورأيناهم يتقدمون القدوات الصالحة في الصفوف الأمامية حتى أصبحوا هم القدوات الوجيهة للمجتمع يتابعهم الصغير والكبير..!

كنتُ أتابعُ لقاءً على قناةِ إعلامٍ رسميٍّ استضافت أحد هؤلاءِ فسأله المحاور: ما هي أسباب شهرتك؟ فقال: تصدِّق إنني لا أعرف..!!

كلمة "لا أعرف" هي مدخل الشهرة في هذا الوقت، لأن من "يعرف" يعني أنه اتخذ من العقل مركباً، ومن المنطق منهجاً، ومن الصدق وسيلةً، وهذا لن يجد له من الشهرة ما يجذبه نحو الناس في عمومهم، والذين لم يعد يعنيهم أن يعرف الآخر أو لا يعرف؛ أي لم يعد يهمُّهم إن كان يملك المحتوى النافع أم لا! المهم أن تتكرر كذبته، وهذا بالضبط ما قاله جوزيف غوبلز، مسؤول الدعاية السياسية لهتلر إبان الحكم النازي:" "كرر الكذبة كثيراً بما يكفي وستصبح هي الحقيقة"، فهؤلاءِ مجرَّد "كذبة" تتكرر حتى يصبحوا هم ذاتهم "حقيقة"..! إذا كان ذلك (المشهور) لا يعرف سبب شهرته، فما بالك بالناس الذين يتشبَّثون بأطرافِ إزارهِ؟!.

كل ذلك يحدث لأن من يُتابع هؤلاءِ، ومن صنعهم أصناماً اجتماعية إنما افتقد إلى قيم مثلى في حياته، وإلى مبادئ راسخة، ومن ذلك تقدير الذات واحترامها، فمن قدَّر نفسه لن ينزلها منزلة هؤلاءِ الرُّعاع الهُمَّجْ، ومن رفع معاييره عالياً فقد رفع أخلاقياته، وأذواقه، ونظراته، وأفكاره لترتقي به عالياً فوق متابعةِ هؤلاء.

إنها الثقافة الضحلة التي تودي بالإنسان إلى (هُوَّة اللامحتوى)، تلك الهوَّة القاتلة التي تسحقُ الكائن الإنساني، فتجعلهُ مجرَّد شبحٍ فارغ، لا هدف له في الحياة عدا الركضِ وراء التَّافهين. ولا شك أنَّ الآثار التي يخلِّفها الجري وراء نوعية من (المهرِّجين) فرغوا من المحتوى كبيرة وعميقة، ومن ذلك: أنهم أصبحوا قدوات للمتَابِع كيفما كان محتواه، وأنهم أفرغوهُ من رصانةِ المحتوى إلى هزالته، وأنهم جعلوهُ مجرد شبحٍ يتراقصُ وراءهم، وأنهم سوَّقوا له تربوياً في المجتمع، وأنهم ساعدوه على تحطيم القيم الأخلاقية والوطنية..!

ولأجل علاج هذه النتوءات، هناك ثلاثة مستويات؛ هذا (الفارغ المحتوى) عليه أن يُمارس رقابة داخلية على نفسه، وينتبه للمحتوى وأثره. ثانياً: المجتمع الذي عليه أن ينتبه للآثار المدمِّرة لهذا (الفارغ المحتوى)، ويستعيد رشده، ثالثاً: فرض القوانين التي تمنع السُّخرية سواء لدى الأفراد أو المؤسسات.