السياسات الاقتصادية ونطاق تأثيرها؟!

مسلم مسن

massan2050@gmail.com

نعلم أنَّ السياسات الاقتصادية تشمل: السياسات النقدية التي تهتم أساسًا بسعر الصرف وأسعار الفائدة، والسياسات المالية المهتمة ببنود الإنفاق والإيراد في الميزانية العامة للدولة والسياسات التجارية المُختصة بالتأثيرات على سلوك الصادرات والواردات السلعية والخدمية والتعرفة الجمركية وغيرها.

السؤال الذي دائماً ما يشغل المخططين والاقتصاديين والمهتمين في الحقل الاقتصادي يتمحور حول مدى تأثير السياسات الاقتصادية على معدلات النمو والتنمية واقعياً، بمعنى هل يكفي أن تكون هناك سياسات اقتصادية مصممة بدرجة عالية من الكفاءة لكي يحصل الاقتصاد على معدلات نمو عالية وحلول ناجعة لمُعظم قضاياه الكلية من : بطالة (قضية الباحثين عن عمل) وتضخم ومديونية؟! ولماذا العديد من الاقتصاديات تضع سياسات اقتصادية غاية في الإتقان ولكنها لا تحصد النتائج المرجوة؟! وهل  المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها) واقعية عندما تُؤكد في كل تقرير بأن "اتباع سياسة اقتصادية سليمة" يؤدي إلى إصلاح اقتصادي؟!

هذا السؤال المحوري أو الأسئلة المنبثقة عنه مثار بحث وتقصٍ للعديد من الدراسات والأوراق العلمية على مدار العقود الماضية لسبر أغوار "السياسة الاقتصادية ومعرفة ما إذا كانت قادرة على حلحلة التحديات والقضايا الكلية. ولعل ورقة (Easterly, 2003)  مهمة بما ركزت عليه من بحث تأثير بعض أدوات السياسة الاقتصادية (معدل التضخم، رصيد الموازنة العامة، عرض النقود، والمغالاة بسعر الصرف، ودرجة الانفتاح) على معدل نمو دخل الفرد وما آلت إليه من نتائج تبين تواضع إسهامات أدوات السياسة الاقتصادية على معدل النمو مع وجود عوامل أخرى مؤسسية أكثر حسماً في تحديد هذه العلاقة. وعلى غرار تلك الدراسة قام د. عبد القادر باتباع منهجية إسترلي على عينة من البلدان العربية وتقريباً توافقت الدراستان على محدودية تأثير بعض أدوات السياسة الاقتصادية على النمو عموماً. على الجانب الآخر، هناك دراسات أسست للعلاقة الموجبة بين التحرر الاقتصادي ومعدلات النمو مثل(De Melo, Denizer and Gelb, 1996)  وغيرها من الدراسات، إلا أنَّ ورقة (Makin, 2011)  بعد الأزمة المالية 2008، مرة أخرى أكدت محدودية تأثير السياسات الاقتصادية على المدى الطويل على معدلات النمو والبطالة.

ودون التوسع في أدبيات هذا المجال بين أوراق مؤيدة أو مخالفة لواقع السياسات الاقتصادية وحدود تأثيراتها، فإنَّ النتيجة الحتمية والعملية التي لا شك فيها بأنَّ أدوات تلك السياسات - مهما برع المخططون في تصميمها- وحدها لن تكفي لاستعادة زخم النمو ومُعالجة قضايا الاقتصاد الكلية.

خلاصة القول أنَّ السياسات الاقتصادية الفاعلة حتى تحقق نتائج على أرض الواقع قد تحتاج إلى عوامل أخرى منها ما يلي:

إدارات مؤسسية فاعلة وكفوءة قادرة على استيعاب متطلبات تلك السياسات وتنفيذها بكل اقتدار ووفق خطط تنفيذية واضحة وشفافة. من الواضح عملياً بأنَّ أكثر ما يعيق وصول السياسات الاقتصادية إلى أهدافها التنفيذ المتواضع لها واجتزاءها بشكل مشوَّه يبعدها عن غاياتها، فمهما كانت تلك السياسات جيدة يأتي التنفيذ ليبعدها عن مسارها وتأثيرها الإيجابي.

قد تكون المؤسسات المنفذة كفوءة ولديها القدرة على تنفيذ السياسات ولكن الصدمات الداخلية والخارجية غير المتوقعة والمحسوبة تؤثر بشكل واضح على نتائج تلك السياسات ولا تجعلها تعمل وفق المساحة والسعة المطلوبة لتحقيق الأهداف الاقتصادية المرسومة. ربما الأزمة المزدوجة التي يشهدها العالم حالياً لجائحة كوفيد-19 وأسعار النفط مثالا حيا للصدمات الخارجية التي أثرت على معظم اقتصاديات دول العالم والأزمة المالية في 2008 وغيرها من الأزمات والجوائح الخارجة عن حسابات وتنبؤات المخططين والمنفذين لتلك السياسات. هنا قد لا نتوقع النتائج المرسومة والمخطط لها وربما خطط الطوارئ والسيناريوهات البديلة تتصدر المشهد وتؤدي إلى تعطيل أو تأجيل بعض السياسات في أحسن الأحوال.

هندسة الإجراءات والتقدم التقني والتكنولوجي والابتكار ونماذج القياس الرياضي المتطورة أصبحت عوامل مُؤثرة في نجاح السياسات الاقتصادية، فلا يكفي أن تكون لديك سياسات سليمة ومؤسسات فاعلة ولا يكفي أن تتجنب الصدمات بأنواعها- خارجة عن نطاق التنبؤات في أغلب الأحيان- ولكن قد يكفي أن يكون لديك اقتصاد قائم على الابتكار والإبداع قادر أن يترجم السياسات ويطور المؤسسات والكوادر ويستوعب ويمتص الصدمات بسرعة فائقة ويتحول وفق رؤية واضحة. وبعض النماذج الناجحة في السلطنة التي خرجت من رحم الجائحة ولو كانت محدودة العدد والنوع تبقى مهمة وتستحق الدراسة (الصندوق العماني للتكنوجيا وإطلاق تطبيقات ومشروعات قائمة على الابتكار، الاستيراد المباشر وتوظيف بعض الأصول اللوجستية مثل الموانئ للاستيراد المباشر...إلخ).

الخطط والحملات الإعلامية (Media Campaign)  ومدى فاعليتها في التأثير على منفذي ومتلقي تلك السياسات. هذا الجانب مهم وقد يكون حاسماً في تهيئة البيئة المُناسبة لتطبيق السياسات الاقتصادية. ومؤخرًا حتى المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي بدأت تُوصي بمثل هذه الحملات الشفافة والتي من المفترض أن تسبق وتصاحب أي سياسة اقتصادية خصوصاً سياسات التحرير الاقتصادي والمالي.

لا يجب أن نُقلل من أهمية تصميم سياسات اقتصادية سليمة ولكن لابد أن نعلم جيدا بأن هناك معوقات وتحديات قد تضعف الأثر الإيجابي لتلك السياسات، فعلى المخططين تفاديه والحد منه قدر الإمكان ومعالجته وإلا فمحدودية الأثر واقع لا مناص منه ولابد من العمل في كل الاتجاهات لتذليل ما يُمكن تذليله بغية الوصول لثمار تلك السياسات كاملة غير منقوصة؟!

تعليق عبر الفيس بوك