عُمان والمحيط الهندي

 

د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي

باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية

 

 

على مر العصور والأزمان كان المحيط الهندي الساحة الأمامية لعمان، إليه "تُرفع أشرعة" سفن العمانيين لتمخر عبابه وتغشى موانئه من كانتون في الشرق إلى زنجبار  في الغرب ومن بندر عباس في الشمال إلى موزمبيق في الجنوب، حاملة الخير والسلام والطيبات من الرزق، وكانت موانئ عمان، مثل حاسك وصحار ومرباط، من أقدم الموانئ في العالم وملتقى السفن والتجار، كتب عنها المؤرخون والمستكشفون ووصفوا ما يصدر منها وما يورد إليها.

وكان العمانيون هم أهل الحفاظ النجدة والنخوة من أجل الأمن و السلام والإزدهار الإقتصادي في هذا المحيط الواسع، فقضوا في زمن الإمام غسان بن عبدالله على القراصنة الذين عرقلوا التجارة والملاحة في بحر عمان. كذلك أغاث العمانيون وأنجدوا من استغاث واستنجد بهم، كما حدث في زمن الإمام الصلت بن مالك مع أهل سقطرى، ثم في زمن الإمام قيد الأرض مع أهل  ممباسا. وكانت نجدة العمانيين لأهل ممباسا هي الأساس لقيام إمبراطورية عمانية اتسعت ثم ازدهرت في زمن السيد سعيد بن سلطان. على أن تلك الإمبراطورية لم تكن كغيرها من الامبراطوريات التي نهبت خيرات الشعوب وسخّرت موارد البلدان وأسواقها لخدمة أطماعها، بل كانت لتبادل المنافع ونشر مبادئ الإحسان والعدل بين الناس جميعا، الأمر الذي ساعد على رواج التجارة  وعلى انتشار العلم والثقافة العربية والعادات العمانية الحسنة بين شعوب وسكان المناطق التي وصل إليها العمانيون، فأصحبت بعض تلك المناطق منارات علم ومراكز ثقافة، مثل مدينة كلوة في تانزانيا حاليا، التي أطلق عليها البعض أندلس الشرق.

وفي الزمن الحاضر  لا يزال المحيط الهندي مجالا حيويا لعمان، خاصة على الصعيد الإقتصادي لما يزخر به من ثروات سمكية وبحرية ولموقع عمان غير البعيد عن ممرات الملاحة وخطوط التجارة العالمية فيه. لذلك أصبح ميناء صلالة واحدا من أهم موانئ المنطقة، يتم فيه تفريغ وتصدير شحنات تبلغ ملايين الأطنان سنويا، كما تقوم حوله صناعات تصدر إلى بلدان كثيرة في المنطقة وخارجها. كما أن منطقة الدقم الاقتصادية بمينائها الحديث ذوالأرصفة الطويلة وساحات التخزين الواسعة والمرافق العديدة، مهيئة لأن تكون محور ارتكاز عالمي لقطاع التدبير، أوما يسمى القطاع اللوجستي، وللتبادل التجاري مع دول المنطقة وخارجها، مثل الصين وبلدان وسط آسيا وذلك عبر ميناء جواذر في الباكستان أوعبر ميناء كولمبوفي سريلانكا وهما الميناآن اللذين استثمر فيهما الصينيون مبالغ طائلة لتسهيل تجارتهم مع بلدان المنطقة. وإضافة إلى مينائها الحديث فإن منطقة الدقم الإقتصادية مهيأة لتصبح مركزاً لتخزين النفط وللصناعات الثقيلة، بما ذلك صناعة السفن وصناعة البتروكيماويات والصناعات الهندسية الأخرى.

لكل تلك الأسباب التاريخية ولدواعي الحاضر ومن أجل المشاركة في صنع مستقبل المحيط الهندي، فإن على عمان أن تعمل على تجديد دورها التاريخي في المنطقة، ويمكن أن يكون ذلك على ثلاثة مسارات متزامنة.

-المسار الأول يركز على تنمية السواحل والمواني العمانية على بحر العرب، وذلك من خلال تسهيل الإستثمار الأجنبي فيها خاصة في الصناعات الثقيلة. كذلك من المهم توجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة، لا سيما نحوالمشاريع السياحة ومشاريع التدبير (اللوجستيات) والمشاريع الخدمية التي تسهل حياة الناس وتساعد على جذب السكان إلى المنطقة، مثل المدارس والجامعات والمؤسسات الصحية والخدمات البلدية والأسواق ومراكز الترفيه والسياحة. ومن المهم في هذا السياق تسهيل السفر من الخارج إلى تلك المناطق والعمل على استقطاب خطوط الطيران للعمل في مطارات صلالة والدقم وغيرها، سواء من خلال رحلات جوية منظتمة أومن خلال رحلات غير منتظمة chartered flight. ومن المفيد إقامة معارض دولية وإقليمية لبعض السلع والمنتجات، مثل السيارات وقطع الغيار ومعدات ومواد البناء وغيرها من المنتجات والسلع التي تحتاجها أسواق بلدان المنطقة. كما أنه من المهم تسهيل مشاركة أصحاب الأعمال والمهتمين بتلك السلع والمنتجات من داخل السلطنة وخارجها.

المسار الثاني يكون لتوقيع اتفاقيات ثنائية مع البلدان القريبة الواقعة على شواطئ المحيط الهندي، تشمل الإستثمار والتجارة وإنشاء جمعيات أوغرف مشتركة بين أصحاب الأعمال في السلطنة ونظرائهم في تلك البلدان، وكذلك إنشاء آليات ومؤسسات تعمل على زيادة التبادل الثقافي والتعاون الأكاديمي معها، ويستحسن في هذا الإطار  أن تخصص عمان منحاً دراسية في جامعاتها لطلاب من تلك البلاد وتقديم فرص تدريبية، بهدف تقوية الروابط الثقافية والعلمية معها إلى جانب التعاون في المجالات الاقتصادية.

أما المسار الثالث فيتمثل في إعادة النشاط إلى "رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي" التي تأسست في عام 1997 وكانت السلطنة من المؤسسين لها. ومن المناسب التذكير هنا أن تلك الرابطة قد حددت ثلاثة مجالات للتعاون، هي التعاون في المجالات الحكومية وبين أصحاب الأعمال وبين الأكاديمين. وحيث أن أنشطة الرابطة قد دخلت مرحلة من الفتور والضمور، فمن المناسب أن تبادر السلطنة إلى الدعوة إلى إجتماعات بين دول الرابط تعقد في نفس الإطارات التي يدور حولها نشاط الرابطة، ولا بأس أن تبدأ باجتماعات بين أصحاب الأعمال ثم بين الأكاديميين ثم المسؤولين على المستوى الحكومي. ولما كان الهيكل الإداري الحالي لأمانة الرابطة صغير وبدون مسؤوليات واضحة لها، فمن المناسب أن تدعوالسلطنة إلى تقوية أمانة الرابطة، وأن يكون لها أمين عام بصلاحيات تمكنه من اقتراح خطط وبرامج سنوية محددة، وأن تقوم كذلك بالدعوة إلى اجتماعات دورية لكافة اللجان المختصة فيها. كما أنه من المفيد لاقتصاد السلطنة ولمكانتها الدبلوماسية أن تقدم للرابطة مقرا دائما في مسقط ويتم إشغال بعض كبار الوظائف فيها من العمانيين إلى جانب آخرين من الدول الأخرى.

أخير وحيث أننا ذكرنا ميناء حاسك وأهميته التاريخية، نتذكر بيت شعر في قصيدة للإمام ابراهيم بن قيس الحضرمي، وفي ذلك البيت إشارة واضحة إلى السفن الكثيرة التي كانت تبحر إلى ميناء حاسك وترسو فيه:

"وصلِّ على الهادي نبيك ما جرتْ

سيول بوادٍ أوسفينٌ بحاسكِ".

تعليق عبر الفيس بوك