عبدالله العليان
تابعت -عن بُعد- ندوةً حوارية عبر تقنية الاتصال المرئي "زووم"، الأسبوع المنصرم، بين مسقط والدوحة، مع الباحث والأكاديمي القطري د. جاسم سلطان، وكانت بعنوان "أزمة العقل المسلم المعاصر"، ولا شك أن النقاش والحوار وإثارة السؤال حول وضع الأمة الراهن، من حيث التراجع والتخلف، بالقياس مع الكثير من دول العالم التي كانت قبل عدة عقود، نتساوى معها في نفس الظروف بمقاييس متقاربة خاصة بعض الدول الآسيوية.
لكنَّها الآن نهضت وتقدمت في المجال العلمي والتقني في جوانب كثيرة، وبقينا نحن في ذات المربع الذي ربما ازداد سوءاً أكثر مما كان عليه من عقود مضت. لكنني أختلف مع د. جاسم في بعض ما طرحه في هذا الحوار المرئي. فقد أشار ضمن هذا النقد الذي تعيشه أمتنا، وحدد بعض الأسباب التي أدت لذلك، من خلال رؤيته عن الحالة التي وصل إليها العقل المسلم، وأسهم في هذا التخلف والتراجع على مستويات كثيرة، كما أن قضية "أزمة العقل أو نقده"، قد دار حولها الكثير في العقود الثلاثة الماضية، منذ مشروع د. محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي"، ومن تبعه من مؤلفات، سواء في نقد "نقد العقل العربي"، أو ما كتب عن: "مأساة العقل العربي"، وإشكاليات العقل العربي، واغتيال العقل العربي...وغيرها من الكتب والدراسات في هذا المضمار، وهذه تحتاج رؤية منصفة تجاه هذا العقل، وأهمية عدم تجاهل مسببات النخب السياسية والأزمات التي رافقتهم بعد خروج الاستعمار، إلى جانب الاستبداد، وغياب الحريات، والتنمية الصحيحة، التي هي المعوق الأساسي لتراجعنا وإخفاقاتنا.
وقد تحدَّث الباحث عن قصة إحدى الغربيات التي سألته بقولها: أنتم تقولون إنَّ في قيمكم كل الحلول للمشكلات ومشكلات العالم؛ فلماذا الهجرة إلى بلاد الغرب -في بريطانيا مثلاً- والبلاد الغربية الأخرى، واعتبر د. جاسم أن هذا السؤال ربما أنه منطقي ويوافق رؤيته! مع أن هناك من الأسباب الدافعة إلى هذه الهجرة، لا دخل لها بالقيم أو العقل، كسبب رئيس للهجرة، بل هناك أسباب موضوعية تتعلق بالظروف الاقتصادية، أو السياسية أو الحروب، أو غيرها من الأسباب والتوترات التي تجري وأمرها معروف، وهذا لم يختص به العرب والمسلمون دون غيرهم، والتاريخ به الكثير من الإضاءات لهذه الهجرات الفردية أو الجماعية للغرب أو الشرق، ومن كل أمم الأرض عبر التاريخ.
ففي الولايات المتحدة وأوروبا، جاء الملايين من شعوب كثيرة بعد النهضة الصناعية، وعاشت في الغرب لهذه الأسباب، واليهود أيضا عندما واجهوا المحرقة في ألمانيا النازية، اتجهوا إلى تركيا وبلاد عربية أخرى؛ فالقضية لا تتعلق بالقيم أو المبادئ إن كانت صالحة أو غير صالحة، وهذا السؤال، ربما لا يخلو من مسبّقات فكرية للسائلة، وهذا يذكرني بالسؤال الذي وجه إلى الأستاذ الإمام محمد عبده، عندما أجبر على الهجرة من الاحتلال البريطاني في مصر، عندما وقف مؤيدا للثورة العرابية في أواخر القرن الثامن عشر، فجاءه أحد المستشرقين الفرنسيين، وسأله: قرآنكم يقول "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، وعندي كمية من الطحين وزنها كذا.. كم من الأرغفة يطلع منها؟ قاله له الإمام: غداً أجيبك عن هذا السؤال. ذهب الإمام في المساء إلى أحد المخابز في باريس، وسألهم عن كمية الوزن من الطحين: كم يطلع منها رغيف؟ أجابه صاحب المحل: بأنها كذا.. من الخبز، وفي اليوم الثاني قال الإمام للمستشرق: الكمية كذا من الرغيف يطلع من هذا الوزن؟ فقال له المستشرق: من أين حصلت على الجواب؟ قال له من القرآن.. قال المستشرق مُتعجِّباً كيف؟ قال له: ذهبت إلى أحد المخابز وأعطاني الرد على ما جاء في سؤالك؟ والقرآن يقول: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ".
أيضاً د. جاسم سلطان توقف عند قضية اختلاف الأهلة عند بعض المسلمين، التي لا يتم قبولها إلا بالعين المجردة، واعتبرها ضمن أزمة العقل المسلم! وأعتقد أنَّ الأمر ليس بهذه الإشكالية؛ فهناك تعدُّد في مسألة القبول بالرصد العلمي عند أغلب الدول الآن، وهو الغالب، وبعض الدول لا تزال محتفظة بما جرت عليه العادة للرؤية المجردة، لكن الأمر ليس بتلك الأهمية التي يمكن وصفها بأزمة عقلية لدى المسلم؟
أيضًا من ضمن ما طرحه د. جاسم سلطان في الجلسة الحوارية المرئية، قوله: إننا دائما ننتقد الغرب وأنه ضدنا، ويتآمر علينا ويخطط لإضعافنا... إلخ، واعتبر هذا القول من ضمن أزمة عقل المسلم. والحقيقة أنني أستغرب أن يقول د. جاسم هذا دون أن يحدد مضمون النقد ومنهجه، ذلك أن إشكالاتنا مع الغرب قضية ماضية حاضرة، وهو كذلك أيضاً لا يكف عن الأحكام المسبقة تجاه العربي المسلم، بأنه عدو وشرير، ويكره الحضارة الغربية والحديث معروف وموثق منهم، ويوم سقط المعسكر الاشتراكي في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي -العدو الأحمر- اعتبر بعضهم أن البديل للمنازلة هو العدو الأخضر -الإسلام- وأنَّ علينا أنْ نستعد لمنعه وإضعافه!
فالنظرة للإسلام والمسلمين نظرة قديمة ولا تزال، وليست وليدة هذا العصر وتحدياته ومشكلاته؛ وذلك بحكم الصراع العسكري الذي يمتد لعشرات القرون، والسجالات التي تمت بين بعض الدول الإسلامية والغرب المسيحي، وكل هذه الخلفيات تلعب دوراً في الصورة السلبية للإسلام والمسلمين، ولا تزال هذه الصورة يتم تحريكها واستدعاؤها وفق الظروف والمشكلات التي قد تحدث. كما أنَّ قضية التغريب ومحاولة الاختراق الفكري والثقافي، كتب عنها الكثيرون، ومن كتاب ليسوا محسوبين على الرؤية الإسلامية الخالصة حتى لا يُقال عن اصطفافهم وانحيازهم، ومن هؤلاء د. محمد عابد الجابري، ود. حسن حفني، ود. برهان غليون، والعديد من الكتاب -ومنهم بعض الغربيين- ممن كتبوا وناقشوا ونقدوا ما أراده الغرب من معوقات وإجهاضات وتغريب لكل المؤسسات الثقافية والفكرية والتعليمية؛ بهدف إلحاقنا به ونصبح تابعين له، وهنا الحديث يطول في هذا المضمار.
يقول د. الجابري في كتابه "المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية"، إنَّ التوسُّع الاستعماري الذي جاء للشرق جاء لإجهاض مشروع النهضة الذي فكّر فيه محمد علي في مصر، و"التخريب الذي مس بل أجهض وأعاق مفعول بعدها الآخر، التنويري التحديثي، وذلك إلى درجة يصح معها القول إنَّ تعثر النهضة العربية، أعني ما أصاب التحديث والحداثة من انتكاسات في الوطن العربي، يرجع في الأساس، لا إلى مقاومة داخلية من القوى المحافظة في المجتمع العربي، بل إلى الدور التخريبي الذي قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبي".
والحديث يطول في قضية العلاقة مع الغرب؛ لذلك من الإنصاف أن يقال بموضوعية في علاقتنا معه سلباً أو إيجاباً، من حيث الأحكام المسبقة والنظرة المتبادلة بيننا وبينه وليس نظرتنا نحن فقط للغرب، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي "الإسلام والغرب.. ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001". وللحديث بقية،،،