ذكرى وفاة السُّلطان المؤسس

 

 

خالد بن أحمد الأغبري

 

في مثل هذا الشهر "يناير" من العام الماضي كان هناك يوم غير عادي في حياة الشعب العُماني يوم اختلطت فيه دموع الحزن والأسى بالآلام الشديدة والمزعجة التي زعزعت كيان هذا الشعب وأفضت بتلك الحالة الاستثنائية التي أثارت موجة عارمة من الهلع والتوتر والكآبة لرحيل رجل السلام رجل المحبة والوئام.

رجل صنع تاريخه وتاريخ بلاده بفكره وعقليته وإرادته وحكمته وإخلاصه، وسجله بأنامله الوفية ونظرته الثاقبة في سجلات حافلة وصفحات ناصعة في موسوعة القادة الأوفياء العظام الذين شهدت لهم أفعالهم وبطولاتهم بالكثير من المواقف الخالدة.. سجَّلها بحبر من ذهب وأحرف من نور وبكلمات مدوية وإنجازات متعددة وأفعال كريمة ولغة فصيحة ومُعبرة نشأت واستقرت عبر منظومة تاريخ عُمان المجد والأصالة، وبرحيل هذا القائد بدأ عام الكآبة والضيق وتسللت مع بدايته جائحة كورونا الكبرى التي غزت العالم واقتحمت الحدود الدولية وانهكت البشرية، حيث تفشى المرض بضراوة بالغة وشدة لم يشهدها النَّاس خلال العقود الماضية فذهب ضحية هذا الوباء الكثير من النَّاس وتصاعدت المخاوف وبات الوضع الاقتصادي والصحي والمعنوي في تأزم وتذمر وتطور سلبي غير مسبوق، فضلاً عمَّا تسبب فيه من تداعيات وقلق استمرت معه الحالة النفسية في صراع مستمر وهو لازال يُلقي بظلاله حتى يومنا هذا والجميع في حالة ترقب لما سوف تسفر عنه من نتائج وخيمة محاطة بالتكهنات والقلق مع تباين آراء الأطباء بشأن جدوى اللقاح المصنع للوقاية من تداعياته ولله عاقبة الأمور.

وبرحيل السلطان قابوس- طيَّب الله ثراه- انطوت صفحة من صفحات هذا التاريخ المشرق في ليلة مظلمة كئيبة تعطلت فيها الأنفاس وتوقفت من خلالها نبضات القلوب واسترخت فيها الهمم لتأخذ قسطاً من الراحة من أجل أن تستعيد أنفاسها وقواها وذكرياتها الخالدة لكي تستمر في مواصلة مسيرتها وهي تستنشق عبير ماضيها التليد وحاضرها الجديد وعزمها المتجدد الذي أطل علينا من نافذة ذلك العهد الميمون عهد قابوس الحضارة والتنمية والإنجاز. لقد رحل عنَّا ذلك القائد الوفي الشهم الحليم الذي تميزت قيادته بالصفات الإنسانية والحكمة الحصيفة وبُعد النَّظر فكانت له تلك المواقف الثابتة والعقلية المتميزة والفكر العميق الذي ترسخت معه معايير ومرتكزات نهضة عُمان الشامخة.. رحل جلالة السلطان، رحل قابوس الخير طيب الله ثراه .. إنَّ رحيل هذا القائد المحبوب والزعيم العظيم أوجد لدينا فراغاً عاطفياً وإنسانياً واجتماعياً وسياسياً كما أوجد لدينا ذلك الإحساس بالفقدان والشعور بالأسى البالغ الذي تعمق في وجداننا نتيجة غيابه بعد سنوات من العطاء والنماء والإنجاز الذي عشناه وتعايشنا معه طيلة خمسين عاماً من الرفاهية والازدهار، ولا زال فقدانه يخيم على أمتنا ووجداننا ومؤثر على مسار حياتنا ولازال صدى رحيله يغزو مكونات نهضتنا ويدق أبواب أنفاسنا ويُهيمن على حركاتنا وسكوننا .. ذلك المُصاب الجلل والحزن العميق والبعد الذي ترك فينا مآسي متأصلة في حياتنا اليومية وفراغ ما كان ليعوض لولا فضل الله وحكمته في اختيار خليفته الذي سلمت له زعامة البلاد وقيادتها بحسب ما تضمنته تلك الوصية.

هذا ليس لكون السُّلطان الراحل كان متفردا في عقليته وبُعد نظره وخصاله الكريمة فحسب بل إنَّ التفاف الأسرة الحاكمة وتقديرها واحترامها له ومكانته الخاصة في قلوب العُمانيين مع المكانة التي حظي بها من لدن شعوب العالم وقياداتها هي بلا شك التي منحته ذلك الحب وتلك الشعبية وتلك الثقة المُتبادلة التي يفتقدها الكثير من الشخصيات والقيادات العربية والعالمية خاصة في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المعايير وكثر فيه الهرج والمرج واختلط فيه الحابل بالنابل وأصبح الإنسان يتم تسويقه وبيعه علناً ويسفك دمه وينتهك عرضه وحرمته تحت مظلة الديمقراطية ومحاربة الإرهاب لكنه بحسب تقييم المنصفين الدوليين ليس للقائد الراحل مثيل يسد ذلك الفراغ الذي تركه في قلوب شعب تربى في أحضانه وترعرع تحت كنفه ورعايته وامتزج حبه بنجاحه والتف شعبه تحت مظلة قيادته، وتكونت تلك المادة العاطفية السخية بروح عطائه، كما تحققت تلك الإنجازات من خلال ثمرة جهوده وإخلاصه.. فنشأت مسيرة عُمان بتلك الصورة المشرقة التي بددت ظلمة الجهل بمصابيح العلم والمعرفة والفقر بالعيش السخي الكريم والانغلاق بالانفتاح الكامل والمُتكامل مع كافة دول العالم وبدأت المسيرة الظافرة تمخر عباب البحار شاقة طريقها بقوة واقتدار نحو بناء دولة حديثة ذات تاريخ عريق ومجد متجدد وحضارة متأصلة ربطت حاضرها بماضيها وأفعالها بقيمها وثوابتها بعزيمة أبنائها ورخائها بمنهج عقيدتها ومعطياتها بفلسفتها الخاصة ومواقفها بنظرتها الإنسانية وسياستها بسياسة القادة الأوفياء ليس تقليلا من شأن القيادة الجديدة ورجالها العظام الذين تشربوا بالحنكة والحكمة وفق تسلسل تاريخي مُمتد لعدة قرون منذ عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي -رحمه الله- ولكن فقدان جلالة السلطان الراحل قابوس طيب الله ثراه له شأن آخر باعتباره الأب الذي احتضن أبناءه خمسين عاماً من عمر نهضة شامخة عامرة بالحب والوفاء متكاملة بالعطاء مستوفية البناء لها قاعدة صلبة وجسور ممتدة بحكمة هذا الإنسان الذي احتضن عُمان بأحضانه وعقله وفكره وعزيمته وإنسانيته.

احتضن السلطان الراحل بلداً كان يُعاني من الإخفاقات والتخلف وما صاحبهما من جهل وفقر وانطواء مع الذات وتعثر في الفكر والثقافة والتي كان من المفترض أن تأخذ نصيبها من ينابيع هذا الفكر والثقافة المعاصرة القائمة على خطط وبرامج واستراتيجيات متطورة وفاعلة في بناء العلاقات الدولية وتنفيذ البرامج المرتبطة بمصالح الوطن والمواطن وتقديم الخدمات التعليمية والصحية وتنويع الاقتصادي واحداث تورة تنموية شاملة في مختلف مناحي الحياة ومفاصلها. لكن عمان رغم تلك الإرهاصات والتحديات التي تعرضت لها وعاشت تحت وطأتها ما قبل عهد النهضة المباركة استطاعت أن تخطو خطوات متسارعة ونمو مضطرد بفضل القيادة الرشيدة لمنقذها السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الذي بناها لبنة لبنة وسخر لها كل الإمكانيات من أجل أن يراها بتلك الصورة المشرفة التي أبهرت العالم بنجاحها وتطورها السريع في مختلف المجالات، وها نحن اليوم نودع عاماً كاملاً منذ أن تمت مواراة جثمانه الطاهر مثواه الأخير.

نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ورضوانه (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وبعد تلك الحقبة من الزمن وما لمسناه خلال هذا العام بعد رحيل جلالته رحمه الله بأنَّ القيادة الرشيدة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله وأبقاه- لم تتوان في السير قدماً نحو مواصلة التنمية وتكملة المسيرة والإسراع في تنفيذ رؤية "عمان 2040" بعد ما تمت مراجعة الوضع ومعالجة بعض الأمور الهامة وتحديث هيكلة النظام الإداري في مختلف الجوانب، ومعالجته بما يتوافق مع متطلبات المرحلة الجديدة لمعطيات نهضة عُمان الحديثة لكي تستكمل مسيرتها وتأخذ دورها الإقليمي والدولي وتحقق المزيد من الإنجازات وهي تتفاعل مع معطيات مراحل الحداثة والتجديد في ثوبها الجديد ثوب العز والمجد والسؤدد.

حفظ الله عُمان وقائدها وشعبها من كل سوء وزادهم رفعة ومكانة والله يوفق الجميع لما فيه خير البلاد والعباد إنه ولي كريم.

تعليق عبر الفيس بوك