أ. د. حيدر أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
في بادية من بوادي العالم حيث كان الجهل يُلقي بظلاله جاء نبي الإسلام مُحمد صلى الله عليه وسلم ليرفع شعار العلم، ويرفع من قيمة العلم والعلماء لدرجة عالية بحيث وضع العلم كأحد أهم أسس التفاضل بين البشر "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ".
ولم تقتصر هذه الدعوة على ذلك فحسب بل اختطت منهجاً عملياً مميزاً وطرحت إثارات وكأنها تثير همم الإنسان وفضوله، ففي مجتمع كان همه ينحصر في كسب العيش والاستمتاع بالملذات وإذا بالقرآن الكريم يدعوهم إلى البحث والتقصي حول أمور كانت خارجة تماماً عن حسبانهم "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ".
ولم يكتف الإسلام بذلك فحسب بل أوضح أنَّ الأسباب بمسبباتها وأن هناك نظماً وسنناً اجتماعية وكونية يخضع لها الجميع على حد سواء، ولن تجد لسنته تبديلا فهو عزَّ وجلَّ شأنه "لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، فهذه سنة اجتماعية محكمة.
وهناك نظام كوني محكم وضعه الله عز وجل يسير عليه الكون "لا ٱلشَّمْسُ يَنۢبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ وَلَا ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِوَكُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ"، وبذلك رسخ مفهوم السنن الكونية والنظم التي تتحكم في مسيرة الإنسان ودعا أتباعه إلى ركيزتين أساسيتين وهما الإيمان والعمل الصالح لإعمار هذه الأرض وأصبح مفهوم "اعقلها وتوكل" هو السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف الربانية في حياة المسلم.
لكن هذا المفهوم أصبح مشوهاً وانقلبت الآية مع غياب الوعي في بعض مجتمعاتنا الإسلامية وانتشر وترسخ في العقل اللاواعي مفهوم مفاده أنَّ القدرة الإلهية إنما تتجلى في تحدي القوانين الطبيعية بالمعجزات والكرامات وبذلك وضعوا الطبيعة وقوانينها في مواجهة الإيمان بالله، وكلما كشف العلم نظاماً وقوانين جديدة وأسرارا كانت البشرية جاهلة بأسبابها كلما ضاقت مساحة القدرة الإلهية لدى هؤلاء.
لقد وصل الأمر بالبعض أنَّه يتمنى ألا يتطور العلم ولا يكشف القوانين الإلهية الكامنة في الطبيعة خوفاً منه على إيمانه القائم على الجهل وعدم المعرفة، فمن يدري ربما يقوم العلم ويكشف القوانين الكامنة وراء خلق الإنسان ويصل به الأمر في نهاية المطاف إلى خلق خلية حية كاملة، إنَّ هذا سيقلب عليه الأمر رأساً على عقب وسيدق آخر مسمار في نعش إيمانه القائم على الجهل والمجهول.
إنَّ هذا التخوف يولد عند المسلم تردداً بالغ ويفقده الدافعية للبحث والتقصي في بحوث ذات أهمية بالغة كالبحوث المرتبطة بنشأة الكون والحياة والهندسة الجينية والبحوث المرتبطة بالعقل البشري، وبالتالي يؤدي إلى فقدان مجتمعاتنا الإسلامية إلى تخصصات علمية مهمة.
كما أن هذا الربط بين الجهل والإيمان بالله يشكل خطورة بالغة وتأثيرا سلبيا كبيرا على التقدم العلمي في مجتمعاتنا لأنَّ المسلم عندما يرى ظاهرة معينة ويعجز عن تفسيرها فإنِّه يتجه إلى تفسير الظاهرة وإرجاعها إلى القدرة الإلهية وكأنَّ القدرة الإلهية هي البديل عن القوانين الكونية والمفترض في المسلم أن يبحث عن الأسباب الطبيعية التي من خلالها تجلت القدرة الإلهية.
إننا لا نشكك أبداً بالقدرة الإلهية، فالله عزَّ وجلَّ هو قادر على كل شيء ولكن إرجاع الأمر إلى القدرة الإلهية وبشكل مباشر أدى بنا إلى الكسل وعدم السعي للبحث عن القوانين الطبيعية وراء الظاهرة التي لم نستطع تفسيرها فبدل البحث عن الأسباب الطبيعية نجد أنَّ مفاهيم المعجزات والكرامات تتكرر في عدد من المجتمعات الإسلامية لتفسير أغلب الظواهر التي يعجز المجتمع عن تفسيرها.
وربما يكون لتربيتنا دور في تعزيز هذه الرؤية، فالكثير منَّا تعرض في صغره عندما كان يسأل والديه عن أمر ما كيف حدث ولم يكونا على علم ودراية بأسبابه الطبيعية، فإن جوابهما كان يربطنا دوماً وبشكل مباشر بالقدرة الإلهية وأنها السر وراء هذا الحدث وكانت الرسالة التي تصلنا ضمناً بأن بعض هذه الأمور قد لا تحتاج إلى سبب طبيعي لحدوثها فالله بسلطته المطلقة تجاوز السبب الطبيعي وأوجده فلا داعي للبحث عن الأسباب الطبيعية.
إنَّ علينا أن نُرسخ في أذهان أبنائنا أن القدرة الإلهية تتجلى بأسمى صورها من خلال الكشف عن القوانين والنظم الكونية التي تسود هذا العالم، وأن الأسباب الطبيعية هي القاعدة التي يسير عليها هذا الكون فالله تعالى آل على نفسه إلا أن يسير هذا الكون عبر القوانين الطبيعية التي سنها جلَّ وعلا والمعجزات والكرامات هي استثناءات نادرة الحدوث.