"إن للعربية لينًا ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقًا لمقتضيات العصر".. وليم ورك.
يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
أحدهم كلما سألته عن أمر، غالباً يرد بكلمة أحياناً، حاولت أن يغير الرد ولو بمفردة أو لفظ آخر، لكن يبدو أنَّ صاحبي تجاوز معضلة الجمل المفيدة من اسمية وفعلية، واستمسك بعروة أحيانًا، التي لا تبقي ولا تذر!
"أحياناً" كلمة قد تصلح أو تستخدم للتسويف، أوعدم الإبقاء على وضع ثابت، فأحياناً هي تفترض أن يوجد الشيء أولا يوجد، إن أردته موجوداً فهوموجود أحياناً، وإن لم ترده فأحياناً تفي بالغرض وتكفي!
قد أسميها دبلوماسية أحياناً التي تُعطي وبنفس الوقت تأخذ وهي التي في الواقع لم تعطِ ولم تأخذ، هي عذر من ليس له عذر، الأكيد أنَّها ليست بالجازمة، ولا هي بالحازمة، أقرب للاعتذار عن فعل شيء (ضمنياً بالطبع) أو التردد بالقرار! لو بحثنا حولنا لوجدنا هذه "الأحياناً" تنطبق على كثير من تصرفاتنا، وحتى في تصرفات بعض الحكومات التي تتعامل مع أحياناً كأصل وليس استثناءً!
لاحظ في الطبائع اليومية والعادات الاجتماعية تتصدر أحياناً كثيرًا من الأجوبة، لاشك هناك ولأي سبب يرى أن أحياناً فيها حكمة، بل إن هناك من يتعامل مع أحيانا بمنطق: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان!
حتى في تعامل الطبيب مع المرضى، قد تكون أصعب إجابة يتلقاها الطبيب من المريض هي أحياناً، لا هو الذي أكد الوجع، ولا هو الذي جزم بالتشافي، يالهذه "الأحيانا" التي قد تضطر الطبيب لطلب أشعة عادية ويُمكن بعدها مقطعية + التحاليل والعلاجات التي تبدأ ولاتنتهي لكثير من الحالات والسبب في تمسك بعض المرضى بالغموض واستخدام أحياناً!
أثناء الاستعداد لكتابة هذه الكلمات، طرأ على بالي أن أدعم المقال بمعنى كلمة أحيانا في المعاجم العربية، ووجدت أن الكلمة تصف نفسها بنفسها، فلاداعي لمعجم أو تدقيق!
قبل فترة ليست بالطويلة كنت أجهز بحثاً تاريخياً عن الحملات الصليبية، وبالتحديد الحملة الرابعة عندما دعا البابا إنوسنت الثالث عام 1198م، إلى التجهيز لشنّ الحملة تحت شعار استعادة القدس للمسيحيين، وقد أرسل رسائل دعوته لملوك أوروبا، فوافقوا جميعهم، عدا الإمبراطور البيزنطي أليكسيوس الثالث- مقره القسطنطينية- لاعتبارات كثيرة (1)، ونتيجة لما حدث في هذه الحملة بالذات من أحداث غريبة ووصول الأمر للتنافس بين مدينتي البندقية وجنوة على سيادة الأساطيل البحرية للبحار، وقيام البنادقة بنقل العديد من المؤن للطرفين المتحاربين في رحلات أخذت الطابع التجاري، إذ كان البنادقة بسفن أسطولهم الضخم يتعاملون بشكل تجاري بحت مع الطرفين المتحاربين وكانوا ينقلون بعض المؤن والأسلحة للطرف الإسلامي ممثلاً بالدولة الأيوبية، والعكس صحيح، وهنا كباحث تاريخي لا تفارقني الأسئلة والاستفهامات ولاشك أنَّ "أحيانا" لم تغب!
هي مفردة واحدة لكنها تستخدم استخدامات تغني عن مقالات، وهذه هي ميزة اللغة وغناها بالمعاني، عندما يستطيع الإنسان النطق بكلمة واحدة تحتمل احتمالات وليس احتمالا واحدا!
من أطرف ما سمعت بخصوص هذه المفردة، كنت قبل سنوات بأحد الأقسام الحكومية، وخلال حديث مع أحد موظفي القسم قال: أحياناً تخلص المعاملة وأحياناً لا، أول ماجاء على بالي مذيع النشرة الجوية عندما يتحدث عن الرياح الشمالية الغربية الخفيفة إلى معتدلة السرعة التي تنشط على فترات!
حتى في مجال التاريخ السياسي المُعاصر تتدخل أحيانا بضراوة، وتتصدر نقاشات وملاسنات المحللين، فأحياناً لونفكر قليلاً سنجد أنَّ السبب الرئيسي لدخول العم سام للمنطقة هو الغزو العراقي للكويت، وتحررت الكويت ولم يُغادر العم سام المنطقة حتى اليوم، وحتى في هذه الأيام سنجد أن الأزمة الخليجية المؤسفة سببا لدخول قوى دولية مؤثرة أخرى للمنطقة، وستنتهي الأزمة ولكن ستبقى هذه القوى الدولية!
هل في الأمر صدفة؟ أو نشغل المخ للبحث عن نظرية مؤامرة؟
قد تكون السياسة أحياناً أبلغ توكيد وذلك حين تجنى ثمار نتائجها، وحين يوثق التاريخ أن هذه النتيجة كانت مخاضا سياسيا بدأ بكلمة أحياناً نحن أصدقاء، وأحيانا لا نعرف من الضحية ومن الجزار!
عندما تلبس أحياناً السياسية ثوب البلاغة، لتكون مفهوماً أبلغ عن الأحيان الأخرى!
كلمة.. ولها ألف معنى، وتحتمل كل احتمال!
____________
- موقع عربي بوست الإلكتروني، نشر في 2020 /4/ 27.