سيزورنا الفرح يومًا

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

 

سلمى ترعى أغنامها كل يوم وتسرح بها إلى أجمل البقع الخضراء في الريف لم تكن تفكر في شيء غير إسكات جوع أغنامها التسع وعندما ينتصف النهار تجلس إلى ظل شجرة وارفة وينظم لها قطيعها الصغير فتسترخي الغنيمات وتتمدد على الأرض وهي تجتر بعض ما جمعته في ذلك الصباح تأتي الطيور وتسقط عليها ثمرات التين فتسارع لجمع بعض ما جادت به السماء قبل أن تصحو الشياه من غفوتها تنظر للأعلى وتستمع لزقزقة العصافير وهي تنقر الثمار اليانعة وفي كل مرة تستلم من العصفور الجميل حبة تين فتضعها في طرف اللوسي (غطاء للرأس) المعقود على رقبتها فقد صنعت من طرفه كيساً لجمع غنائم السماء.       

في نفس الصباح أخذ مسعود جمله من مبركه واصطحبه بهدوء إلى أسفل العقبة حيث محطة الحطابين وجد نارهم لا زالت موقدة والإبريق لا زال فيه بقايا شاي مخلوط بالحليب ربط جمله في شجرة قريبة وجلس إلى الموقد ليحتسي كوب من شاي الحطابين فالمعروف أن إبريقهم الضخم لا يغادر النار أبدا ففي كل مرة يضاف له الماء والسكر والشاي ويمزج بالحليب فيستمر غليانه طوال الليل وأطراف النهار في المساء يصنع الحطابون خبزتهم العملاقة على الأحجار الملتهبة في ذات الموقد إنه طحين وملح وماء ... يردد صدى الوادي ضرباتهم على جذوع الأشجار اليابسة وتسمع رغاء الجمال التي يتم تحميلها من كل حدب وصوب وصياح الرجال لتهدئتها ... هنا استل مسعود جزرته وانضم لقافلة الحطابين.

بعد أن صلى الفجر في مسجد القرية اصطحب عوض أبناءه الأربعة إلى المزرعة وبدأوا بدك الأرض قبل أن ترتفع الشمس عليهم ومع كل ضربة منزحة (أداة حرث) تهتز الأرض الطيبة تحت أقدامهم وتتناثر حبيبات التراب الطاهر إلى كل ارجاء الماطرة (مساحة من الأرض يتم استصلاحها) يتسابقون مع الشروق لإنجاز مهمتهم ... يغادرهم الأب ليوقظ الثور الهامد بالقرب من البئر عندما يحس بقرع نعال صاحبه يقوم ويتهيأ لربط حبال المنجور التي تحمل قرب المياه من قاع البئر لتروي الأرض عبر سواقٍ ملتوية وأخرى مستقيمة قام الثور بمهمته كما يجب فيذهب عوض لفتح نوافذ المياه لحقول الذرة وبساتين النخيل يعرف كيف يروي أرضه ويتعفر بترابها كل صباح وفي الضحى تأتي أم الدار وعلى رأسها فطور الجميع وتضعه تحت شجرة البيذانة وسط الغارف (المزرعة) فهي الشجرة الأضخم ودائمة الإخضرار التي تجتمع تحتها الأسرة كل صباح.

منذ بزوغ النور ذهب عبيد إلى حماره ووضع تحته رزمة قت وسطل ماء وعاد إلى الدار ليتجهز للذهاب إلى السوق حمل حماره بعدته اليومية قرب الكير وأكياس الفحم وقطع الحديد التي يستخدمها لإلانة المعادن يجلس كعادته في الناصية الشمالية للسوق ويبدأ في إيقاد ناره التي تهدر طوال النهار فهو من يصنع كل احتياجات الناس هنا المرتبطة بأدوات الطهي والحراثة والصيد وغيرها لا يعاون أحد العم عبيد فهو لم ينجب لكنه بدأ بتعليم صبي يتيم من عامة الناس كان يتردد على السوق لطلب المُساعدة فأصبح معاونه وشريكه في نفس الوقت لاشك أن جابر هو حداد القرية القادم بلا مُنازع.

الحطاب مسعود والمزارع عوض والحداد عبيد جميعهم زبائن الصياد دحام فهو صياد ماهر يعلم كل مسالك البحر ولا تخيفه لجاته تعود على الإبحار بعد منتصف الليل عبر قاربه الخشبي الذي يسيره بمجداف واحد فمرة يجدف إلى اليمين ومرة إلى الشمال حتى يصل موطن الهوامير وسلاطين البحر يتحايل عليهم ببضع قطع من سمك السردين التي تخفي سنارته الرشيقة فيأخذهم على حين غرة ويقذف بهم في مؤخرة قاربه الصغير وعندما ترتفع الشمس إلى كبد السماء يعود إلى الفرضة (الساحل) ليتسابق إليه المنتظرون فيتخاطفون الصيد اليومي فلا يهم دحام إن كان البيع نقدا أو دينا أو حتى هبة فالرجل ميسر والرب ميسرها معاه يستبقي عشاء أبنائه وضيوفه ويقفل راجعًا إلى بيته العامر بوجوه من الريف والبادية فالرجل مرحب ومرح ودائم الابتسامة لذلك وضع نفسه كإحدى أيقونات المجتمع الصالح في هذه القرية. هذا الزمن لن يعود حتماً. لأنَّ عقارب الساعة لا ترجع للوراء. لكننا قد نستطيع محاكاة ذلك بأدوات عصرية.