بائعة الحناء

 

عبدالله الفارسي

نحن تنقصنا الإنسانية لنصبح مجتمعا إنسانيا،

كنت في عجلة من أمري حين اضطررت للذهاب إلى فرع من فروع بنك مسقط الأخطبوطية المنتشرة في مدينتي، نزلت من سيارتي منتظراً دوري في الدخول إلى كبينة مكينة السحب والإيداع النقدي، وقفت في النقطة المُحددة كجندي مستجد منتظراً دوري، سمعت صوتاً هادئاً رقيقاً، ينادي: حناء يمني، حناء يمني.

فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا بامرأة فقيرة تضع صندوقاً صغيراً على جانبها، وتنادي بصوتها الرقيق وحنجرتها الحنون. حناء يمني، حناء يمني، كانت محتشمة جداً، وقورة جداً، غير مبتذلة، وعزيزة النفس.

كانت تُنادي بصوت بدا مبحوحا وأحياناً يظهر خجولاً وكأنها تجتهد وتكافح لإخراج صوتها واضحاً مسموعاً. كانت الساعة 9، سحبت ريالاتي، وتوجهت مُباشرة نحوها وطلبت منها كيساً من الحناء، حين اقتربت منها شممت رائحتها، كانت رائحتها كرائحة هذا وطن قديم، تنبعث من عباءتها نكهة التراب ويفوح من ثيابها عبق البؤس والمُعاناة.

كانت في مثل عمري، ولكنها لم تكن مثلي أنا صاحب الريالات والبطاقة البنكية والراتب الشهري المنتظم لقد بدت كعجوز، لقد طحنتها المشقة وأكل شبابها الجوع، وهرستها الفاقة. طلبت منها كيساً واحداً، لأرفع من معنوياتها، رغم أنني لا استخدم الحناء، ولا أحب أن أصبع شعري، أفضل دائماً أن يكون شعري أبيض مشتعلاً محترقاً كروحي.

قالت لي بصوتها الأمومي الهادئ: "هذا حناء يمني ممتاز، لصبغ الشعر والاستحمام والطهارة أيضًا".

أعطيتها ريالين ففرحت وتغير رنين صوتها وقالت لي: أنت الأول، لذلك سأخفض عنك نصف ريال فأرجعت لي ريالاً.  قلت لها: يا امرأة أنا سأزيدك نصف ريال، فرفضت بشدة وأنا رفضت بشدة، وأخيرا حسمنا القضية بأن أدفع السعر الأصلي.

ودعتها بشكر وودعتني بدعاء وابتعدت. ركبت سيارتي المهلهلة، وتوجهت إلى مشاويري لأكمل معركتي اليومية مع النَّاس والحياة. في الساعة الواحدة اضطررت للعودة للبنك مرة أخرى لإرسال مبلغ لابنتي الغالية، فتفاجأت بذات المرأة بائعة الحناء، تنادي على بضاعتها، (حناء يمني، حناء يمني) هذه المرة كان صوتها منخفضاً منهكاً منطفئاً وكان صندوقها قابعاً بجانبها كخروف مريض.

يا إلهي، أكثر من أربع ساعات وهي واقفة هنا في هذه الشمس تنادي!! تمر عليها "المرسيدسات"، وتقف بجانبها "اللاندكروزرات"، ويرمقها أصحاب "اللاكززات"، ينزلون من سياراتهم الفارهة،  ولا يصغون إلى صوتها الحزين وندائها الأليم الذي يكاد يصرخ فيهم: "ساعدوني، اشتروا مني هذا الحناء، أنا لا أتسول منكم، أنا أبيع، أنا آكل لقمة عيشي بعرقي". لكنهم لا يسمعون هذه الأصوات الداخلية القادمة من كواكب القلوب، لقد أعتادت آذانهم على سماع أصوات المغنين وأنغام المغنيات، لم ينزل إليها أحد ويتناول من يدها كيساً من الحناء مُقابل ريال ونصف الريال!! ياله من مجتمع، ويا لها من قسوة،

كل ما في الصندوق هو عشرة أكياس من الحناء، أليس بين هذه السيارات الفارهة شخص معه خمسة عشر ريالا يعطيها لهذه المرأة ويُخلصها من صندوقها الثقيل الذي يقصم ظهرها ويكسر روحها.

لم تبع المسكينة طوال 4 ساعات سوى كيسين من الحناء فقط. أربع ساعات، وهي في الشمس، تصفعها الحرارة وتلسعها نظرات العابرين، وقفت أتأمل المنظر لأتألم معها وأشاركها الوجع، رأيت أحد عمال الشوارع المساكين يحضر لها قارورة ماء صغيرة، هو الوحيد الذي شعر بعطشها وتعبها وسمع جفاف حلقها، فالمساكين يشعرون ببعضهم. ناولها الماء، فأخذت ترشف منه جرعات لتلطف حنجرتها، وليمنحها القوة لمُواصلة النداء من جديد، (حناء يمني، حناء يمني، حناء يمني)..

لم أحتمل المنظر فقررت فجأة أن أشتري صندوقها كاملاً، فذهبت لإيداع المبلغ لابنتي، وأثناء نزولي من الدرج متجهاً إليها، رأيت رجلا كبيرا في السن تظهر عليه سيماء الدين أكثر من ملامح الغنى ومظاهر الثراء، رأيته يقف أمامها. سمعته يقول لها: بكم كل ما في الصندوق؟

فقالت بخمسة عشر ريالاً، فقبض الصندوق وحمله كطفل رضيع إلى سيارته، ثم عاد قابضاً عشرين ريالا في يده وقال لها: الباقي لك. رفضت واعترضت بشدة، يالها من امرأة شريفة عزيزة، رفضت كما رفضت في المرة الأولى وقالت: "أنا أبيع ولا أتسول ولا أقبل الصدقة، أرجوك". فأضطر الرجل للرضوخ أمام صلابة كرامتها فقبض منها المبلغ المتبقي له وهو مندهش من عزة نفسها.

نحن بحاجة إلى أن نرحم هؤلاء الناس، هؤلاء الباعة الفقراء الذين نصادفهم في الطرقات وعلى أطراف الشوارع إنهم فقراؤنا الشرفاء، إنهم إخوتنا الأعزاء إنهم من قال فيهم رب العزة (لا يسألون النَّاس إلحافا).

أولئك الكرماء الإعفاء الذين لا يقولون للناس أعطونا، لا يمدون أياديهم اليابسة النظيفة لأحد مهما بلغ بهم الجوع مبلغه. لقد اضطرتهم نذالة الحياة أن يخرجوا من بيوتهم نساءً ورجالاً ليكسبوا رزقهم، إنهم يبحثون عن لقمة عيش مغموسة بالعرق والألم، مدهونة بالعذاب والكرامة ليطعموا أبناءهم الشرف ويسقونهم الأمانة.

ماذا سنخسر من محافظ نقودنا لو أشترينا منهم، بدافع المعونة والمؤازرة والدعم النفسي، ليُواصلوا حياتهم مرفوعي الهامة ناصعي الكرامة. إنسانة فقيرة تبيع الحناء، اختارت أفضل مكان تتوافر فيه النقود، لكنها وقفت أربع ساعات كاملة لم يلتفت إليها أحد، سوى رجل واحد ويبدو من ملامحه أنَّه فقير مثلها، فالفقراء هم من يحترمون ألم بعضهم وهم من يعرفون لسعة الحاجة.

لقد كتبت وقلت في أكثر من موضع وفي أكثر من مقال نحن "لا ينقصنا النفط ولا تنقصنا الثروات بل تنقصنا الرحمة، تنقصنا الإنسانية".