حصل لغيرنا

 

فاطمة الحارثية

 

السعي نحو العدل والحرية أوهن الإنسان منذ القدم، وتقطعت أسبابه في سبيل ذلك، وإن سألت عن التعريف والمعنى لهما في كتب التاريخ، ستجد ألا اختلاف وتباين قد تمَّ قيده في تلك الكتب والمجلدات، وإن سألنا البشر عن ما يُمثل ذلك لهم سنجد أنَّ كل يصيغ المعنى ويُفسره حسب مصلحته وما يناسبه وبما يخدم أجندته، ولقد استخدمه كبار الثوار والمؤثرون في العالم لابتزاز مشاعر النَّاس وصناعة الفوضى، وتغيير السياسة بما تخدم مآربهم وشهواتهم، ولقد استطاعت شعارات العدل والحرية إزالة دول وإنهاك أمم كثيرة، فكم من روح تم إزهاقها في سبيل العدل والحرية تحت شعارات "شهيد الحرية أو العدل"؛ رحلت تلك الأجساد وهي لا تعلم لمن ولماذا غادرت الدنيا، ولم يذكر التاريخ بعدهم أنَّ قضيتهم انتصرت أو حتى كيف يمكن أن تكون الحياة بوجود العدل التام أو الحرية المطلقة، ومع ذلك مازال البعض يُعيد ذات الأحداث قصا ولصقا وهدرا. 

قاربت العولمة الأيديولوجيات، بل وربما جمعتها في قوالب تكاد تكون متكررة، لتضع ثقافة الاختلاف والتميز في كفاف تحت وطأة حقوق الملكية الفكرية، ربما لا ضرر من التقليد ولكن بماذا يخدمنا أن نُعيد ما حصل لغيرنا؟ وكيف لذلك أن يوصلنا نحو الخطوط الأمامية وإن وصلنا وتجاوزنا الزحام، كيف لنا أن نبقى في وطيس ينهش الطاقات؟ وحمى السلطة والتحكم قد فاضت بأصحابها حتى أباحت كل شيء من أجل البقاء، كقتل الإنسان وانتهاك قواه واغتصاب حقوقه وصحته ليصبح أداة حرب.

من أتوا بالصناعات الجديدة ليسوا أفضل منِّا ولا أذكى، فقط استطاعت قيادات قوية وحكيمة أن تستثمر تلك الجهود وتعززها لتعم فائدتها إلى أقصى درجة، فلقد أدركوا مبكراً كيف يوجهون عقل الإنسان كصانع وفكره كمستهلك، ولم يتدخلوا كثيرا بالتنظيم أو صناعة إجراءات معقدة لقيد أي جديد يُبتكر، أو أية مفاهيم تصنع أو تخلق حاجة يستفيد منها لتوسعة موارده.

ولقد حاولت الدول التجارية الكبرى فهم طبيعة الناس وتنوع حاجاتهم للمتاجرة بتلك الحاجات والرغبات وصناعة الملايين، على سبيل المثال لماذا لا نصنع لأنفسنا ماركات ونتميز بها لتزدهر عالمياً؟ لماذا علينا السفر للتسوق أو الاعتماد على الشراء الإلكتروني الذي أردى بأذواقنا وأضعف من جودة مقتنياتنا؟ لماذا لا نستثمر إمكانياتنا؟ أو لنقل دعم وتنظيم سبل الجذب الاقتصادي لإعادة صناعة وهيكلة القوى الشرائية ورفع أفواج الإقبال التجاري "استيراد مستهلكين"، إن أبسط المقومات التي تُسهل لنا عمل ذلك هو سمعتنا كدولة آمنة مُستقرة، مما يُطمئن أي مستثمر بأن يفتح فروعاً تجارية ومستهلك زائر يأتي من أجل التسوق أو عقد الصفقات، إن استهداف وبناء سبل التمكين لجذب واستيراد قوى شرائية يحتاج إلى الكثير من التغيير في المفاهيم والعقليات وآليات العمل، ليس فقط في أنظمة الجمارك أو البلديات أو بعض الوزارات بل في عمق وأبعاد البناء والتخطيط لذلك والتركيز في رفع الوعي المجتمعي، ولا يجب الخلط بين استيراد المستهلكين وبين مجالات السياحة أو غيرها من المجالات التي اعتدنا أن نعقد بها الأمور مهما كانت بسيطة.

إنَّ التبسيط لا يعني الإرخاء على العكس من ذلك تماما، فتبسيط الأمور يصنع الجودة، ويسهل نيل الأهداف وينظم الجهود ويرفع من عجلة التنمية والنمو، وإنني لا أرى أن تبسيط الأمور بالأمر الهين نظرًا إلى طبيعة الإنسان المعقدة ونزعة الكمال والشك لديه، ذكر الكثير من المفكرين أن أكثر الأعمال اتقاناً هي التي تتبع قواعد البساطة والجمال "simple & sweet"، إذا لنترك محاولة إبهار الآخرين ولننجز الأعمال بوقت أقل وإخراج متقن وبسيط.

إنَّ السهل المنسوخ لما حصل وكان لغيرنا لا يأتي إلا بقشور الفائدة، وعوائد مؤقتة فطبيعة الغالب من الناس حب التجديد وأيضًا العودة إلى حيث ارتاحت أنفسهم، بالتالي عند استنساخ عمل أحدهم أو تقليده أو سرقة الأفكار، لن يكون بالإمكان التطبيق بما يتناسب مع سهولة تغيره وتجديده عند الحاجة إلى ذلك، لأنَّ أصل الفكرة ليست لدى المقلد ليدرك بواطنها، ونحن لم نستهلك كل ما لدينا من فكر وتنوع وابتكار حتى نحتاج إلى استيراد العقول أو التقليد أو الاستنساخ.   

 

جسر...

قال لي عزيز: دعيهم يسرقون أفكارك، دعيهم يسرقون جهدك، ولا تحزني، استمري في طريقك ولا تسمحي لجهدك أن يهن أو ييأس، أبدعي ملء الأرض والسماء، سيعلم الجميع من العامل، ودعيهم في أوهامهم لأنَّ سلوكهم يعبر عن حالتهم الشعورية المنخفضة وضعفهم وفشلهم.