حقيقة المدنية

ربيع بن صالح الأغبري

قيل: خُلِق الإنسان مدني بطبعه فتراه يستأنس ببني جنسه، وقيل مدني بانتقاله إلى المدينة، والتي لها دور كبير في تبديل كثير  من أموره الحياتية والإجتماعية، التي اعتاد عليها، في باديته ولها دور مهم، في التقليل من العادات والأساليب غير المحببة؛ إذ تُساعد المدينة إلى انتهاج الأسلوب الحسن والجميل، في التعامل، كاللين، والظرف، والأنس وطيب المزاج والذي يجعل الجميع يقبله ويستأنس به، ولكن القول الجميل من يقول بأن الإنسان في الأصل خلق بفطرته مدني، وليس بالقول المناسب الذي يرى المدنية في أهل المدن والقرى، ولا يؤمن بأهل البادية وسكان الصحاري مشاركتهم مدنيته.

وأجد أنه لا يُقاس الإنسان بمكان سكنه وإقامته، بل بما يصدر عنه من أعمال نحو مجتمعه، والتي تتبلور في التعاون والتكافل الاجتماعي لكون الإنسان المدني مطالبا بألا يعيش من أجل نفسه فقط، وأن لا ينحاز إلى جماعته أو فئة بعينها، وأن لا يكون متقوقعا في مكان ما، بل مطالب بأن يغوص ويندمج في مجتمعه، يشاركهم سراءهم وضرَّاءهم، أفراحهم وأطراحهم، ويسعى لقضاء حوائجهم ومآربهم على قدر ما أوتي من قدرات وإمكانيات، وقد أصاب أحد الفلاسفة القول عندما فند المدنية، بموضع اجتماع الناس.

لكون حقيقة المدنية، التلاحم بين بني الإنسان وكل واحد منهم يقضي مصالح أخيه ولو لم يتفق معه في دينه أو عقيدته، أو مكانته الاجتماعية، أو غير ذلك؛ إذ ترى حاجة زيد مع عمر، وحاجة عمر مع زيد، وليس هناك مقامات أو مقاسات تلغي هذه القاعدة، ولو نظرنا في مجتمعنا المسلم في العصر الذهبي، لوجدنا اندماجا وتداخلا كبيرا جدا بين أفراد المجتمع، سترى التكاتف والتآلف والتكافل الاجتماعي، ظهر ظهور الشمس في رائعة النهار، ممثلا في معظم نواحي الحياة اليومية.

فترى الغفير مُكمِّلا للأمير، وترى الغني مكملا للفقير، وقِس على ذلك باقي الطبقات والمستويات؛ إذ كل واحد منهم مكمل للآخر؛ لذلك الكل مسؤول عن العمل بصدق وإخلاص على تقوية اللحمة، واستمرارية المدنية والعيش في المجتمع دون الاعتقاد والضن، بأنَّ أي طرف يستطيع أن يقضي مصالحه دون الحاجة للطرف الآخر، وحتى يتحقق ذلك لابد من اتخاذ كل الخطوات البناءة لتعم المدنية الهادفة، والتي تبني ولا تهدم وتجمع ولا تفرق، وينتج عن ذلك انحسار فجوات الفرقة، والخلاف، ورصد الإسلام جوائز مغرية لمن يعمل أي عمل طيب ونبيل، يساعد على التقارب والتآلف بين المجتمع الواحد، حتى تعم المدنية جميع أفراد المجتمع، على مختلف أعراقهم وعقائدهم، ومكانتهم، وبهذا النوع من المدنية يصبح كل إنسان صاحب فضل وإحسان، وأما لو رجعنا إلى أول السطور، والذي يفند المدنية بالمكان، فقد يوجد من يحاول إخراج أهل البادية من المدنية، بحجة أنهم بداة، لوجد المتابع والمهتم بشؤون المجتمعات، إنَّ الأمور عكس ما يُقال لأن في حقيقة الأمر، أهل البادية لم يتقوقعوا في بيوتهم البسيطة، بل كل يوم تشرق فيه الشمس تشرق على البدو وهم مجتمعون، لتناول الإفطار الجماعي أو لتناول فنجان قهوة، أو يضيفون ضيفا قد زار جارهم، أو تراهم يساعدون بعضهم في إنجاز عمل ما.

لكن في عصرنا هذا، أصبحنا نسمع بالمدنية ولا نعرف غير اسمها، وبالأخص في القرى والمدن والمجتمعات الحضرية؛ إذ كل واحد منهم يدَّعي انتسابه للمدنية، الكل يدعي وصلا ليلى وليلى لا تقر لهم وصالا، وهذا ليس بالحكم القاسي على مجتمع المدينة والقرى العصرية، ولكن هذه حقيقة يُمارسها معظم أفراد المجتمع الذي يدعي التمدن والتحضر، فتراه يتكلم عن المدنية، وأفعاله وتصرفاته تقول غير ذلك؛ إذ نرى تحزب المجتمع، ويبدأ الانقسام إلى فرق وجماعات.

فترى أرباب الأموال يهتمون بقرنائهم، وأصاحب النفوذ مع أصحاب النفوذ، والتاجر مع أخيه التاجر ومن الغرائب حتى الفقهاء الذين يحذرون مما تقدم من سلوكيات، تراهم يقعون فيما يحذرون منه الناس، فترى الفقيه يعزف عن جاره ولا يهتم إلا بالفقيه، تراه يجالسه ويزاوره ويسلأل عنه إذا ما غاب، مُهمِّشا باقي أفراد مجتمعة رغم حاجة عامة المجتمع إليه في مجالسته وصحبته، ولو تمدن معهم أي مع عامة الناس، لاستطاع أن يفيدهم ويقدم لهم الدروس والعبر، بشكل أفضل من الدروس والمحاضرات في دور العلم والعبادة، وقس على ذلك معظم شرائح المجتمع، كل فئة انحازت إلى الفئة التي في منزلتها كانت اجتماعية أو فكرية أو علمية أو مالية، أوغير ذلك، بل ومن الدواهي حتى في تقديم التهاني والتعازي كل فئة تحج إلى الفئة التي في مستواها، وإن ظهر غير ذلك لا يتعدى الأمر عن كونه مجاملات شكلية ومن باب رفع العتاب أي حتى لا يقال، وهذا النوع من المجاملات لا يبني مجتمعا مدنيا مترابطا من حيث المضمون.

وهذه هي حال مجتمعاتنا المعاصرة، ولو حاول من حاول أن ينفي هذا الأمر وينكره، لكن هذا هو الواقع الذي تعيشه، وينبغي الكل يعمل على اتساع رقعة المدنية، لتعم المدن والقرى، والسهل والجبل، والريف والبادية على مختلف طوائف المجتمع وشرائحه، حتى تعم الفائدة المرجوة، دون تجاهل الضوابط والحدود، والإدبار عن العادات القيمة، بحجة التمدن، مع مراعاة الحقوق والواجبات لكل فرد من المجتمع، والمحافظة على المسافة الآمنة، والتي تكفل ديمومة العلاقات والمحافظة عليها مع جميع شرائح المجتمع.

تعليق عبر الفيس بوك