علي بن سالم كفيتان
مسكين ذلك الهائم في الطرقات يفترش الأرض ويلتحف السماء أتاه الفرج مرة فالتهم كل المُمكن ولم يلتفت للتبعات؛ جرَّب كل المأكولات واستمتع بأفضل المشروبات ولبس الحرير والديباج وركب أفخم المركبات وفجأة وجد نفسه على ذات الرصيف الذي بدأ منه فلم تشفع له سنين المطر ولا صوامع المحاصيل التي قيل له إنها ممتلئة عن آخرها لقد بات يتضور جوعاً ويستجدي رغيف الحياة.
كل ليلة يحاسب نفسه حساباً عسيراً لأنه لم يمد يده كما فعل الآخرون فقد فضل رهن نفسه للمصرف الذي فتح له ذراعين واسعين فحقق بيتا ومركبة وزوجة وأبناء جميعهم مرهونين لذلك المصرف الذي لا يرحم فبنى هؤلاء المشردون القرى الطينية وأصبحت مدناً بيضاء واسعة تغيب في الأفق وأخيرا وجدوا أنفسهم مطالبين بالعودة إلى سجل العدم فقد تنكر لهم كل شيء إلا الرصيف الذي تحمل فترات ضياعهم وسنوات راحتهم معًا.
بينما يرقد هذا المهمش على الناصية تمر مركبة فارهة يُقذف من نافذتها بكومة من النقود حاول الإمساك ببعضها لكن الأطفال في الجوار أخذوها كاملة وتسابقوا إلى دكان الحارة مرددين "عاش الملك" فيستلم بابو النقد القادم من اليد المنعمة ويمنح كتيبة الأطفال الحفاة بضاعة رخيصة ثم يعودون إلى لهوهم وصخبهم غير آبهين بما يجري فهي كسحابة صيف مرَّت ولا يعلمون متى ستعود.
ظل هائماً على نفسه باحثاً عن ذاته التي تناثرت بين جدران المباني ومعارض السيارات وأرصفة الشوارع المزدحمة تأخذه الذكريات أحياناً لسنين النضال فتنسيه واقعه المرير فيتذكر رفقاء السلاح والأهداف الثورية السامية والعراك الضاري من أجل الحرية والكرامة يؤلمه فقدان مئات الشباب في ريعان أعمارهم، كما تؤلمه اللحظة التي دفن فيها بندقيته في التراب بينما باعها البعض بجواني الرز والسكر.
يمر صاحب الفخامة مجددًا في ذات الزقاق القديم لينثر عطاياه ولا يقف هذا المنهك لتحية الملك فيغضبه ذلك السلوك الانتهازي من ذلك المشرد فيصيح الحارس المُرافق في وجهه بصوت عالٍ... قم... قم... ينهض مثقلاً ويقف على عصاه الحدباء فيُقذف عليه ببضع عملات، لكن هذه المرة علقت في ثيابه الرثة ولم تسقط للأرض بينما الأطفال يتخاطفونها وهو ساكن حتى غادر الموكب المكان... سأل ذاته بحرقة قائلاً... ماذا فعلت كي أحصد هذه النهاية المؤلمة؟
ذهب لمخبز قريته الطيني فوجد عليه رجلا آسيويا ضخم الجثة يدك الطحين بقوة بعد أن ينثر عليه شيئا من الماء والملح كعادته يأخذ رغيف واحد ويدفع ثمنه ويتوارى خلف النخيل ليجلس على الساقية المتدفقة فيلتهم رغيفه ويشرب من الماء الزلال ثم يعود إلى الرصيف. في هذه الليلة تجرد الملك من كل ما عليه وتمشى في المدينة فصاح فيه المشرد إنك تبدو عارياً يا سيدي قال له بكل ثقة هكذا خلقني ربي هل لديك اعتراض؟
لقد كان وفياً للملك أفضل من الذين كانوا حوله رغم ما ألم به من نكران طوال السنين بلع لسانه مجدداً، وقال ليتني لم أنصح الملك وعاد أدراجه إلى قريته القديمة؛ حيث ولد واندس في دهليز أبيه وتذكر كلماته عندما تنكر للماعز وترك الحقل الصغير الرابض في بطن الوادي هذه المرة وجد نفسه في ذات النقطة التي تركها هارباً للمدنية... هنا في هذا المكان القصي لا كهرباء تدفع ولا ماء يُباع.
كنس ما استطاع من أحزانه ولملم أشلاءه الممزقة وأبرق لأبنائه من هاتفه أبو كشاف أن يبلغوا السلطات أنَّه مات فهذا البلاغ سيُحرر ملكية المنزل من بنك الإسكان وستتحمل شركة التأمين بقية أقساط السيارة... نعم سيتحرر بعد أن يموت وسيرث أبناؤه كل شيء لن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن الجثة ولا مراسم الدفن فالجهات المختصة ستتولى كل ذلك تكريماً لهذا الشهيد سيستغل سيارة الإسعاف المكتوب عليها "إكرام الموتى" للمرة الأخيرة وستنزله الرافعة إلى جوف الأرض وستهيل عليه المعدة التراب كل ذلك سيصرف من بند كورونا طبعاً.
... رحمه الله.