التاريخ: استفهام وتهمة؟!

 

 

د. أحلام بنت حمود الجهورية *

أجدني في مواجهة شبه دائمة مع هذا الاستفهام المُغلف بلباس التهمة!! لماذا هذا الإغراق في الاهتمام بالماضي؟! اهتمامنا بالتاريخ ليس هربًا إلى الوراء كما يراه البعض، وإنما هُروب للأمام كما أراه أنا ويراه آخرون معي. وهنا.. أتساءل: لماذا نجد أنفسنا أمام هذا الخطاب باعتبار أن التاريخ تُهمة يجب أن نبررها وندفعها عنا؟ ولماذا لا نجد هذا الخطاب عند الغرب مثلاً؟! أعتقد ببساطة أنَّ الوعي بأهمية التاريخ أصبح بديهيًّا ضمن أولوياتهم وأجنداتهم، بينما نحن لم نصل بعد للوعي المطلوب. وهذا الوعي هو مسؤولية مشتركة يجب أن يُنشر ويُؤسس عبر قنوات ومستويات عدة: الأسرة، والمدرسة، والمجتمع.

إنَّ طريقة تعاطي بعض المؤسسات التعليمية مع العلوم الإنسانية عموماً، والتاريخ على وجه الخصوص، هي السبب الذي أدى لخلق صورة نمطية سيئة لا تَرى في التاريخ إلا قصة تُحكى وحدثاً يُروى، وهو أعمق من كل ذلك؛ فالتاريخ حركة تطور شاملة لكل ما هو موجود، في أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. وقد أنصف ابن خلدون (ت: 808هـ/ 1460م) التاريخ بما كتبه عنه، فيذكر: "... إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول... ويؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق"(1).

وبالعودة لهذه التهمة فالتاريخ منها بريء، فهو أبو العلوم، وهو العلم المستطيل الذي يستطيل ويمتد إلى كل العلوم الأخرى، فهو متغلغل في مصادر الأدب والجغرافيا والفقه والرحلات والإدارة والنُمِيَّات (النقود والمسكوكات) والآثار وغيرها؛ ولهذا يأخذ التاريخ هذه الصفة الموسوعية التي يتفرد بها بين العلوم كلها. ومن المناسب في هذا المقام الإشارة إلى المؤرخ والفيلسوف الألماني فريدريك شيلر (1759-1805م) الذي يعتبر التاريخ المنبع الحقيقي للتجارب الإنسانية، وهو صاحب مقولة مهمة مفادها: "تاريخ العالم هو محكمة العالم". وقد عمل شيلر أستاذاً للتاريخ في جامعة يينا (2)، وكانت محاضرته الأولى في الجامعة بعنوان: "ما المعنى والهدف من دراسة التاريخ العالمي؟"، وهذا العنوان من وجهة نظري مهم أن يكون محاضرة أولى في مقرر موحد وإلزامي عن تاريخ عُمان في مختلف الفترات التاريخية لكل طلاب التعليم العالي بمؤسساته الحكومية والخاصة؛ سواء كانوا عُمانيين أو غير عُمانيين، مع تغيير طفيف، ليكون عنوان المحاضرة الأولى: "ما المعنى والهدف من دراسة تاريخ عُمان؟".

وعبْر هذا المقال، أودُّ طرح ضرورة إعادة كتابة تاريخ عُمان (3) كمشروع مؤسسي بشراكة حقيقية على مستوى المؤسسات المعنية، وعلى مستوى الباحثين أيضاً. على أن يُنظر له بأهمية قصوى وفق منطلقات رئيسية، أهمها:

- إدراك أهمية التاريخ؛ فهو ذاكرة الأمة وهُويتها، وهو عنصر ضروري لنجاح إستراتيجية كل تغيير تقدمي فيها، كما أنه عنصر مهم من عناصر الأمن الوطني.

- إدراك حقيقة أن تاريخ عُمان دُون بمستويات منهجية مختلفة؛ بحيث لا يوجد كتاب مرجعي جامع وشامل لهذا التاريخ بمختلف جوانبه، وعلى مر العصور منذ بداية وجودها وحتى اليوم.

- العمل وفق رؤية منهجية علمية صحيحة للتاريخ في رصد جوانبه الحضارية المختلفة، مستوعبة حركة التطور التاريخي من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل. وهو يعني أهمية النظرة الشمولية في توثيق تاريخ عُمان ضمن حدودها المكانية الممتدة عبر مراحلها التاريخية المختلفة، مع ضرورة التركيز على التاريخ الحضاري وإنجازاته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

- الالتزام بمنهجية البحث العلمي التاريخي القائمة على الرؤية الشمولية والمعالجة الموضوعية المستندة إلى التوثيق والنقد والتحليل، مع الأخذ في الاعتبار المصطلحات وتطورها من مرحلة تاريخية إلى أخرى.

وختاماً.. باعتقادي أن هذا المشروع مُهم ومُلِّح ويحتاج إلى خطة عمل بإطارين نظري وعملي، مُحْكَمة إداريًّا وماليًّا وعلميًّا. وبالتالي؛ نحن أمام مشروع طموح لتوثيق تاريخ عُمان من نواحي عدة: زمانيا (قبل التاريخ، التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر)، وموضوعيًّا (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا)، ومصدريًّا (المصادر المكتوبة، والوثائق، والمخطوطات، والرواية الشفهية، والنقوش...وغيرها)، وتخصصيًّا (التاريخ والأدب واللغة والجغرافيا والرحلات والآثار والنقود والاجتماع وغيرها).

------------------------------

الهوامش:

(1)  ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت: 808هــ/ 1405م). العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهـم من ذوي السلطان الأكبر. تحقيق: أبو صهـيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، بيروت: (د. ت).

(2) جامعة ينا أو جامعة فريدريك/فريدريش شيلر: إحدى أشهر الجامعات الألمانية، في عام 1934م تقرر تسمية الجامعة باسم فريدريش شيلر والذي كان أحد أشهر الأساتذة الذين مروا على الجامعة، حيث بدأ التدريس فيها منذ عام 1787م. المرجع: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

(3) هناك مشاريع وثّقت جوانب من تاريخ عُمان لكنها غير شاملة لما تطرحه الكاتبة.

 

* باحثة وكاتبة في التاريخ

تعليق عبر الفيس بوك