عندما تنهار البديهيات!! (10)


التمدد في اللامكان!!

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

من الحقائق العلمية التي لا يمكن تصورها مع أننا نؤمن بها إيمانا يصل إلى حد اليقين هو أن الكون في تمدد مستمر، وسبب عدم قدرتنا تصور هذا الأمر هو أننا وبمجرد أن نتصور أن شيئاً ما يتمدد، فإنَّ ذلك يعني أن هناك فراغا يتمدد فيه، ولكن عندما يتمدد الكون بذاته فأين يتمدد؟ إننا نعتقد أن المكان هو مكون من مكونات هذا الكون لذا فإن هذا الكون يتمدد في اللامكان!!
إن قصة اكتشافنا للتمدد الكوني ترجع إلى ورقة علمية نشرها عالم يدعى هابل عام 1929؛ حيث لاحظ هذا العالم بأنَّ المجرات تبتعد عن مجرتنا درب التبانة بسرعات يمكن ملاحظتها بسهولة ويسر.
فأين تبتعد هذه المجرات؟ وإلى أين تذهب؟!
بعد دراسة وتحقيق تبين لنا أن هذه المجرات في الواقع لا تبتعد عنَّا بل إن ما يحدث هو أن الكون في حالة تمدد مستمر تمامًا.
ولكي يتضح لنا كيف توصلنا إلى أن الكون يتمدد يمكننا عمل تجربة بسيطة توضح ذلك فلو قمنا بنفخ بالون ووضعنا على سطحه نقطتين تفصل بينهما مسافة تقدر بحوالي 10 سم ثم قمنا بنفخ نفس البالون مرة أخرى فإننا سنلاحظ بأنَّ المسافة بين النقطتين قد امتدت وذلك نتيجة لتمدد البالون، وهذا ما يحدث للمجرات، فالمجرات ثابتة في مكانها ولكن ونظرا لتمدد الكون فإنَّ المسافة بين الكرة الأرضية وبينها في تمدد مستمر.
لنرجع بالزمن إلى الوراء، فإذا كان الكون يتمدد فهذا يعني أنه كان صغير الحجم في بداية الأمر تماماً كما لو قمنا بإفراغ البالون من الهواء، فسنلاحظ أن البالون ينكمش ويصغر حجمه، إن هذه العملية شبيهة إلى حد ما بالكون، فلو رجعنا بالزمن إلى الوراء فإن الكون سوف يتقلص وينكمش حتى يصل إلى نقطة تتركز فيها كل مادة الكون في نقطة صغيرة جدا أصغر من النقاط الموجودة في حروف اللغة العربية!
هل لك أن تتصور أن هذا الكون بكل ما فيه متكتل في نقطة متناهية الصغر!!
إن تكتل الكون في هذه النقطة الصغيرة هو ما تذهب إليه نظرية الانفجار العظيم (Big Bang) إذ إنها تنص على أن الكون بدأ من نقطة متناهية الصغر ونتيجة لعظم كثافة هذه النقطة حدث انفجار عظيم ولد هذا الكون العملاق قبل ما يقرب من 13.7 مليار سنة.
إن التمدد الكوني يدل على وجود قوى دافعة تدفع هذا الكون نحو التمدد، ويمكن أن نرجع سبب التمدد الحاصل في المراحل الأولية إلى الكثافة والضغط الشديدين، ولكن كان المتوقع أن يتباطئ هذا التمدد مع مرور الوقت وذلك بسبب قوى الجاذبية، فنحن نعلم أن الأجسام الكبيرة والأجرام السماوية الضخمة التي تشكلت تمتلك قوى جاذبة وهذه القوى تعمل باتجاه معاكس للتمدد الكوني ولذا فمن الطبيعي أن يتباطئ التمدد الكوني.
لكن دراسات وبحوث تمت في نهاية القرن الماضي أوضحت أن التمدد الكوني كان يتباطئ في أول الأمر أي أن سرعة التمدد تقل مع مرور الزمن ولكن وقبل حوالي 5 مليارات سنة تغير الأمر وبدأ الكون يتسارع في تمدده ومازال التمدد الكوني في تسارع مستمر!!
إنَّ هذا التسارع في التمدد الكوني يشير إلى أن شيئاً ما يدفع هذا الكون نحو التوسع ويؤدي الى ابتعاد الأجرام السماوية بعضهما عن بعض، وهذا يعني أن النجوم التي تملأ الكون تبتعد عنَّا كلما مرَّ الزمن، ولذا فإنَّ ظلمة الليل تزداد شدة بمرور الأيام والليالي ولربما وبعد ملايين السنين لن نعثر على نجم يضيء أفق السماء!!
ترى ما هذه القوة التي تدفع بهذا الكون دفعاً فيمتد وتزداد سعته؟
إن البحث في القوى المؤثرة في هذا الكون أرشدنا إلى أن هناك أربعة أصناف من القوى اثنان منهما ينحصر عملهما داخل نواة الذرة، واثنان لهما أثر بالغ في حياتنا اليومية، وهما قوى الكهرومغناطيسية وقوى الجاذبية، الأولى هي قوى جاذبة ونافرة ولكن تأثيرها يقل بشكل كبير جداً كلما ابتعد الجسمان المتجاذبان أو المتنافران عن بعضهما ولذا فلا يُمكن أن نفسر التمدد الكوني على أنَّ هناك قوى نافرة بين الأجرام السماوية لأنَّ هذه القوى لابد وأن تفقد أثرها كلما زاد التمدد الكوني ولكن ما نلاحظه هو عكس ذلك تماماً، فالتمدد الكوني يزداد سرعة كلما ابتعدت الأجرام السماوية عن بعضها البعض، أما القوة الأخرى فهي قوى الجاذبية وهي قوى تعمل في اتجاه واحد فهي قوى جاذبة ولذا فلا يُمكن أن تكون هي القوى التي تؤثر في سرعة تمدد هذا الكون وتوسعه، ومن هنا فلقد أطلق العلماء على هذه القوى التي تؤدي إلى تمدد الكون وتوسعه والتي لم نعهدها سابقاً "بالطاقة المظلمة"، فهي طاقة مجهولة تدفع الكون دفعاً وتوسعه.
هي طاقة فريدة من نوعها، لم نعثر لها على أثر في المادة من أصغر جرم فيها إلى أكبر نجم وصلنا إليه، وكل ما نعلمه عنها أنها لابد وأن تكون طاقة جبارة وهائلة قادرة على أن تتفوق على كل قوى الجاذبية الناتجة عن كتل جميع الأجرام السماوية التي تملأ هذا الكون.
لقد قام العلماء بتقدير نسبة هذه الطاقة المظلمة في هذا الكون بناء على سرعة التمدد الكوني وكمية الكتلة الموجودة في هذا الكون فتوصلوا إلى نتيجة صادمة بالفعل فكمية هذه الطاقة المظلمة تصل إلى 68% من مجموع الكتلة والطاقة الموجودة في هذا الكون.
ترى هل سنكشف سر هذه الطاقة يوماً ما؟ وهل ستتحول إلى طاقة مضيئة تضيء لنا درب المعرفة إلى أسرار هذا الكون وخفاياه؟!
 
المصادر الرئيسية:
1-     The Search for Infinity: Solving the Mysteries of the Universe by Egil Lillestol, Gordon Fraser and Inge Sellevag

2-    رموز الكون ، الطبعة الثانية 1981، هينرز باجلز.
3-     Dark Matter and Dark Energy, The Hidden 95% of the Universe – Brian Clegg.


(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف الى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها).
ش

الأكثر قراءة