ظفار تودِّع أحمد الفهد

علي بن سالم كفيتان

 

◄ سأحضِر معي إكليلا من زهور ظفار التي أحببتها.. وسأجمع لك بعضا من تراب زيك وأشجار وادي غير.. وسأغترف لك من ينبوع صحلنوت

 

صَدَمني الخبر كما صَدَم الكثيرين مِمَّن يعرفون الدكتور أحمد محاد الفهد، رحمه الله؛ حيث كان لقائي الأخير به في حفل أحد الأعراس قبل سنوات؛ فقد استقبلني ببشاشته المعهودة وكلامه الرزين، وآثر أن نجلس بعيدا في طرف الخيمة، مُبديا اهتمامه بكتاباتي، ومُشجِّعا لي بالاستمرار في الكتابة عن هموم المجتمع، فاكتشفت أنه قرأ كتابي "ظفار.. الإلهام الأبدي"، رحمه الله، وقال لي: "لقد قادني الشغف لإنهائه في ليلة واحدة"، وكانت شهادته لي بمثابة وسام رفيع؛ فالرجل شاعر فصحى من الطراز الرفيع، وله كتابات في عدة مجالات، إضافة لوراثته شعر النانا والدبرارت عن والده الشاعر المشهور محاد الفهد، وشكل الدكتور رحمه الله ثنائيا نادرا مع خالد أقنوت قطن خلال الأعوام الأخيرة؛ فسار على نهج والده في اللحن وقوة الكلمة والنقد البناء، بلهجة ريف ظفار، التي صاغها الفهد بفصاحته، متفننا في توظيف كل مقومات الريف الجميل والبادية الحالمة لمنحوتاته الأدبية التي ينتظرها الجميع بشغف، لقد رحل الفهد الابن، وترك لنا إرثا زاخرا بالفضائل الأدبية والمواقف الإنسانية العظيمة، فرحمة الله تغشاك.

عندما تجلس إلي الدكتور أحمد لا يكاد يُسمِعك صوته من أدبه الجم وأخلاقه العالية؛ فهو غالبا مستمع أكثر منه متحدث، لكنه إذا تكلم أصاب مفاصل الحق، لا يحب الحديث عن الناس؛ فقد صقلت الأيام هذه الهامة الأدبية وربتها أيادٍ عظيمة على حب الفضيلة؛ فالرحيل كان مبكرا وفي قمة العطاء، وهذا ما أحدث غصة في الفؤاد لكل من يعرف الفهد، وينتظر منه عُمرا حافلا بالعطاء الأدبي والإنساني؛ فهو ذلك الدبلوماسي الذي رسم خطواته الأولى في وزارة الخارجية، ثم ارتحل مغرما بجمال عمان وبهائها ليكتب لنفسه صفحة مشرقة أخرى علي بوابة السياحة العمانية؛ فأعطي الكثير وترك الأثر الطيب الجميل لتطوير أداء السياحة في مدينته الحالمة (صلالة) جوهرة جنوب الجزيرة العربية، وكرَّسام لا يكتفي بلوحة واحدة فقد حزم أمتعته إلى بوابة التعليم التقني، شاغلا منصب مساعد عميد الكلية التقنية بصلالة؛ فالكل يعرف مكتب الدكتور أحمد الفهد؛ فهو لا يُغلق، وليست عليه سكرتارية، يأخذ كل من لجأ إليه من أبنائه الطلاب أو أولياء الأمور ويذهب معهم إلى حيث تعقدت الأمور فتنحل على الفور؛ فإذا مر الفهد في العمادة تكون الإجابات... نعم نقدر... فرحمك الله يا من حويت الجمايل َوالفضائل، ورحلت عنا ونحن في أمس الحاجة لوجودك.

ما عمَّق حزني أنني لم أعلم عن مرضه، فلم أزره، ولم أتصل به، وكنت أرتب له مفاجأة أن أهديه روايتي الجديدة "مهاجر من ظفار" (تحت الطبع)، وكنت على يقين بأنه سيستحسنها، وسيخصص لها ليلة بكاملها كما فعل مع "ظفار الإلهام الأبدي"، وكنت سأسعد بملاحظاته ومراجعاته النقدية العميقة لهذا العمل الأدبي الجديد... سأعود منكسرا هذه المرة؛ فالفهد غادر الدنيا وروايتي أصبحت يتيمة. ورغم قلت مُقابلاتنا، إلا أنها كانت ذات قيمة عالية؛ فالدكتور الفهد يمنحك الإلهام، ومهما طالت الشُّقة بينك وبينه تجده مبتسما وكعادته متسائلا: وين بحرك يا رجَّال؟ وكنت أجيبه بأن البحر طوب، لكن هذه المرة غادر الربان وأبحر بعيدا، وتركنا على مرافئ ظفار ننتظر الرحلة المقبلة... فرحمك الله أيها الرجل الشهم الأصيل.

لم أكُن في ظفار حين أتيت من بعيد محمولا على أكتاف الرجال، ولم أحضر مراسم العزاء لبُعد المسافات، لكنني سآتِي يوما إلى حيث انخت ركابك في ثرى ظفار الطاهر، سأُحضِر معي إكليلا من زهورها التي أحببتها، سأجمع لك بعضًا من تراب زيك وأشجار وادي غير، وسأغترف لك من ينبوع صحلنوت، ولن أنسى حمل سلام كل رجل وكل سيدة تنتمي لهذه الأرض التي وُلدت وترعرعت فيها، سأمرُّ بسكون أهلك من كشوب وغفرم وغيرهم ممن أحبوك في كل ربوع ظفار، سأحلق بكل هذا الحمل دون عناء، فأنت تنتظرني وأنا قادم إليك يا صاحبي.

رحم الله الأديب الدكتور أحمد بن محاد الفهد كشوب.. وإنا لله وإنا إليه راجعون