د. عبدالله باحجاج
لا يُمكننا أنْ نفصِّل مسارَ تجديد النهضة العمانية عن مجلس الشورى؛ فهو يدخل في صلب التجديد من عدة اعتبارات -وكلها تلقائية- أبرزها شمولية التجديد باعتباره من المسلمات الجديدة للنهضة المتجددة؛ فلا يُمكن أن يتجاوزه المفهوم -أي التجديد- فهى نهضة متجددة شاملة، وكل تجربة من تجارب نهضة التأسيس يطالها التجديد، فكيف بمؤسسة تمثل الشعب، وتعبر عن إرادته، ويترقَّب أن تشارك الحكومة في حقبة سياسية مختلفة المعطيات: الداخلية والخارجية، والداخلية الأهم، وهي الدافعة للتجديد لمؤسسة رقابية وتشريعية فعالة ومؤثرة ومستقلة.
هذه المؤسسة تجد كيانها المتدرِّج في التطور منذ العام 1981، في أمسِّ الحاجة للتجديد لمواكبة التحولات الكبرى التي تجري داخل بيئتها ومحيطها التفاعلي، وتمس جوهر اختصاصاتها؛ سواء أخذنا بعين الاعتبار طبيعة العهد السياسي الجديد، أو طبيعة دور الحكومة الحديث، أو ماهيات دولة النهضة المتجددة...إلخ؛ كلها تتجدَّد من منظور مواكبة إعادة البناء الضخم الذي يحدث في البلاد منذ يناير 2020.
يكفِي لو وقفنا عند مفصل، نقل دور الدولة من مانح للمال عبر ما يُسمَّى بدولة الرفاه، إلى متلقية -أي المال- من المجتمع عن طريق الضرائب والرسوم؛ فهذا في حد ذاته، يحتِّم مُشاركة مجلس الشورى في التشريع الضريبي، وفي الرقابة على تحصيل الضرائب وتطبيقها. لذلك، فإن رؤيتنا تستشرف تجديد هذه المؤسسة أو حتى مجلس عُمان المكوَّن من مجلسي "الشورى والدولة"، من رحم السياقات سالفة الذكر، على اعتبار أن كل السياقات قد أصبحت متقدمة عليه، مما يستلزم مواكبة هذه المسيرة العصرية التي تتجدد على أرضية دولة حاكمة للتطورات الراهنة والمقبلة، وهى التي ستكُون مرجعيتنا في التأكيد على تلازمية التجديد وشموليته، ومدى نجاعته في إحداث النقلة المتكاملة والشاملة.
والمتأمل في ثلاث خطب لعاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- منذ تسلُّمه الحكم في الحادي عشر من يناير الماضي، كلها تشدِّد على استكمال دولة المؤسسات والقانون، ومثل هذا النوع من الدول يكون قائما على الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وكل خطب جلالته تؤكد على هذه المبادئ بصورة واضحة وصريحة، وكل خطوات التجديد في هيكل الدولة الإداري، وفي التعيينات الوزارية الجديدة والنقلة التاريخية لدور الدولة من الرعائية إلى الجبائية، يتوقف نجاحها على تلكم المبادئ، والتلازمية بين دولة المؤسسات والقانون من جهة وبين مبادئها، هي من أهم ما يميز توجهات العهد الجديد.
ولا يمكن فصل مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة عن بعضها البعض، فهى تربطها روابط متداخلة، وعلاقة سببية، بمعنى أدق لا يمكن فصل الشفافية عن المساءلة، وهذا الأخير عن المحاسبة، وحتى يتم توضيح هذه التلازمية الوجودية لهذه المبادئ، سنلجأ إلى تقديم تعريفات لها، لن نتشعب كثيرا فيها، وإنما سنختصرها وفق تعريفات الأمم المتحدة حتى تتضح المضامين والغايات.
فالمساءلة هي الطلب من المسؤولين تقديم إيضاحات حول كيفية أداء صلاحياتهم وتصريف واجباتهم، والأخذ بالانتقادات التي توجَّه لهم، وقبول المسؤولية عن الفشل. أما المحاسبة، فلها وجهان أساسيان؛ الأول: يتعلق بالواجبات والإجراءات والقواعد المتعلقة بالوظيفة السياسية للدولة، والمتمثلة في صياغة السياسات وتنفيذها، أما الوجه الآخر، فيتعلق بالآليات المعتمدة للعلميات الإدارية التي تهدف لتطبيق السياسات العامة بفاعلية وكفاءة. ومن هنا، فإن الدور الرقابي لأعضاء مجلس الشورى، يكمُن في التأكد من تحقيق هذه الأهداف بالكفاءة المطلوبة، لذلك لا بُد أن يُمكَّنوا بالأدوات الرقابية الناجعة، وأن تكون مرنة سهلة الاستعمال وخالية من التعقيدات.
لو فتحنا ملف الأدوات الرقابية الثمانية؛ وهى: طلب المناقشة، ولجنة تقصي الحقائق، والاستجواب، والبيان العاجل، وطلب الإحاطة، وإبداء الرغبة، ومناقشة البيانات الوزارية، فسنجد أن هناك مجموعة قيود إدارية تحد من استعمالها، بل تُجمِّدها رغم وجودها الدستوري، وتحريرها من هذه القيود، يعد من بين المسائل الحتمية التي ينبغي أن تنصب حولها الجهود تطلعا لرقابة فعالة ومستقلة على تنفيذ خطة التوازن المالي بسنواتها الأربع المقبلة، وكذلك على رؤية "عمان 2040"؛ إذ لا يُمكن الاعتماد فقط على الرقابة الحكومية، فكيف تراقب الحكومة نفسها؟ ولنا تجربة طويلة مع هذا النوع من الرقابة الأحادية، وهى التي تشكل هواجسنا، وهنا منطقة تجديد بكل معاني اصطلاحات مفهوم التجديد، وهنا، قضية تترجم ما ينادي به عاهل البلاد -حفظه الله- من شفافية ومساءلة ومحاسبة لدواعي ضمانات النجاح.
لذلك؛ يستوجب أن تكون انشغالات أعضاء مجلس الشورى منذ أن بدأوا دورة انعقاد جديدة مؤخرا، تحرير تلكم الأدوات الرقابية من شروطها التعجيزية، مثل شرط 15 عضوا لاستعمال بعض الأدوات الرقابية، وتقديم الأدلة الدامغة حتى يقبل طلب الاستجواب مثلا! فكيف لعضو أن يتحصل على أدلة مؤكدة، وليس لديه جهاز معلوماتي يزوِّده بالأدلة الدامغة؟! لذلك، ينبغي السماح بـ"الشك" وجعله مبررا لاستدعاء الوزير للمساءلة، كما هو الشأن في الديمقراطية التي تعلي من شأن الرقابة البرلمانية، فعن طريقه -أي الشك- تتوقف الخطوة التالية، إما المحاسبة أو إغلاق الملف.
ويكمُن السبب في فتح هذا الملف المهم، فيما لجأ إليه مجلس الشورى من التصويت على سرية مناقشات وزير المالية والاقتصاد في سرية مطلقة لم تعد مقبولة ضمن السياقات التي أوضحناها سابقا؛ بحيث يمكن القول إنَّ الشؤون العامة التي تمس حياة المواطنين سواء في لقمة عيشهم أو في أحلامهم وآمالهم المستقبلية أو مساهمتهم عن طريق الضرائب والرسوم في تمويل ميزانية الدولة، تُحتِّم الشفافية والمساءلة والمحاسبة، ولو سلَّمنا بفرضية سرية الأرقام والوثائق، رغم إيماننا بعدم السرية في عالم اليوم، فهل كان ينبغي أن تكون كل مناقشات وزيري المالية والاقتصاد سرية؟
فما حدث من سرية مطلقة ينتقِص من مبدأ الشفافية من جهة ويؤخر الممارسة الشورية، ويجعلها بمعزل عن التطورات السياسية الجديدة في بلادنا من جهة ثانية، وإذا ما كانت هناك قضايا سرية تُحتِّمها مصلحة البلاد، فستكون مقدرة، وبالتالي تكون المناقشة فيها سرية، وليس جعل كل المناقشات سرية، فعملية إطلاع المجتمع على عملية المناقشات تصبُّ في جوهر الشفافية والمساءلة والمحاسبة وتطور تجربة الشورى في بلادنا ومن كل الأوجه؛ منها: تحصين القرار الانتخابي، ورفع درجة حماس المواطنين للعملية الديمقراطية، وتحميل المسؤول مسؤوليته وتبرير أدائه، ومن ثم الوثوق الاجتماعي به، والثقة مسألة مهمة، لن تُبنى إلا من خلال العلنية وليس السرية.
والتمسُّك بالشفافية والمساءلة والمحاسبة من الاختصاصات الأصيلة لمجلس الشورى، ومن أهم أركان إقامة رقابة فعالة مستقلة، ومن ضمن الشروط الأساسية للنهضة الاقتصادية والتنمية بصفة عامة، وهى الضامنة لتصحيح الأخطاء في الأوقات المناسبة، وهى الضامنة للإجماع الوطني، ودونها فقد رأينا حجم وماهيات الإخفاقات في "رؤية 2020"، والأثمان التي تدفعها الدولة والمجتمع، فهل مبادرة التجديد ستأتي فوقيا أم رأسيا؟
تعودنا دائما على المبادرات الفوقية، لكن طبيعة مرحلتنا الوطنية الجديدة، تلح بشدة على الممارسات الرأسية.. لكن، هل يتوفر لدينا الآن في مجلس الشورى مجددون جُدد على مستوى مرحلة التجديد الوطنية؟