إلى 1980

 

فاطمة الحارثية

عزيزي 1980 وما قبله

تحية عطرة بمسك الرياحين

وأما بعد،،

أبث من خلال هذه الرسالة شوقي وحنيني إلى حروف العطف وإن وأخواتها، ومرادفات العشق ومعاجم الفكر، ورثائي لحروف الهجاء التي كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل فيما بيننا، وحزني على الورق المُعطَّر الذي كان يُسعد النفوس، كانت حروف تجتمع لتشكل كلمات فجُمل تداعب قلب المتلقي، تدفئه لأيام وتلهب فكره لأشهر، لم يكن لدينا أيقونات ولا رموز نفك طلسمها الجاف بخيالنا المرهق، كنَّا ندرك القصد ولا نتوهمه، نستمتع بالكلمة على صفحة بيضاء، ونطرب بها فرحاً أو نسقط حزناً، لكنها شفافة، صادقة، واضحة، ترسل الحقيقة المطلقة؛ عزيزي الـ "لايك" لا أعلم ماهيتك ولا صدقك ولا مداك، فهل أنت مُجامل، أم محب، أم مُعجب، أم أنك تحاول أن تثني على المحتوى أو على المُرسِل أم المُحول، لا أعلم حقاً ما هو قصدك، فأنت لغز انتصر على الطلسم.

سرقت السنوات منِّا عواطف كثيرة قد عشناها، خلجات قد لا تتكرر، تلك الشرارات والأحاسيس والعواصف، لم تدع لنا حتى الخصوصية في طرق التعبير عنها وإيصالها للغير، ومداعبتها والحياة بها وفيها، والتنافس والإبداع في تكوينها، كنَّا لابد أن نصغي لنعلم، أو نقرأ الكلمات، طرق وأساليب لا تشبه اليوم ولن تشبه الغد في أيٍّ من ثناياها، فالكتابة أصبحت في الأمور العملية والرسائل أصبحت في الإجراءات الرسمية، أما العواطف فباتت أيقونات جافة مُرهقة. لأعيد ذاكرة البعض ولأعلم البعض الآخر جمال الرسائل وحميميتها:

صديقتي الغالية الغائبة

أكتب إليك وأمامي مُفكرتي الجامعية، بعد أن قرأت ذكرى كلماتك فيها، فالسنوات قد طالت دون أن انتبه لذلك، ورحيلك انطوى مع مغيب ذلك المساء الذي لم يُشرق بعده أي خبر عنك، هل كانت تلك الأيام حلماً أتخيله؟ أم أنَّها كانت لحظات حقيقية، حين علت ضحكاتنا في مكتبة الجامعة ليتم طردنا منها، أم تلك الصباحات التي تعمدنا أن نتغيب جميعًا عن بعض الحصص احتاجاً على بروفيسور مادة حساب التفاضل، وتلك التحديات والتسميات، وحماس المُغامرات، وبراءة العصابات الصغيرة، أكانت كل تلك المشاعر والعواطف حقيقة؟ أين تلك الشرارات والرعشات ونحن نترقب؟ لم أعد متأكدة لأننا اليوم نضع "لايك" على صور انفجارات راح ضحاياها إخوة لنا بدل أن نشجب أو نعترض أو حتى نضع أيقونة قلب منكسر، صديقتي لم يعد أحدٌ يُسارع في القول أو الدعاء، بل بضغطة زر يخال أنَّه أدى واجب العزاء أو قدَّم التهنئة، أو ربما هو يُسجل حضور فأنا لا استطيع أن أتصور مئات بل آلاف الـ "لايكات/ إعجاب" على إعلان عزاء أو على خبر عمل إجرامي أو إرهابي، أو على صورة طفل جائع أو جسد يُصارع المرض، أهو جهل أم أسلوب جديد لنقبل ما لا يُقبل، مضت السنون سريعًا، وبدأت تطوي من كان بالأمس يحتفظ بالرسائل المُعطرة بعطر الكلمات والرياحين، انطوت لحظات قد عشناها حين كانت أيدينا تفتح طيات الورق ليلثم أنوفنا رائحة العطر المعتق، وأعيننا تلتهم الكلمات والجمل المكتوبة بخط أنيق أو مُزخرف أو حتى صغير بريء، وقلوبنا في خفقانها كالمد والجزر إلى آخر كلمة في الرسالة، لنتحقق من التوقيع، وكل كلمة ترسم تجعيده على مُحيانا.

أكتب لك بالرصاص.. أكتب لك بالمقلوب... أكتب لك، نعم قد كنت أكتب وكنت أسمح للوقت أن يأخذ بعواطفي ومشاعري لنصنع الكلمات ونبتكر في الجُمل، أما الآن لا أريد أن أعطي للوقت مجالاً، فهلا اكتفيت بالأيقونة الجافة!

 

جسر..

في إمعة، استوردنا التعبير عن مكنوناتنا في حلته الجافة دون أن نتدخل، وسمحنا للغتنا أن تندثر وأن نضع إعجاباً على الألم والحزن والاعتداء والانتهاك، والأكثر دهشة قبول وتباهي المتلقي.