قابوس.. إطلالة على سيرة ومسيرة

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

ثمانون عاماً، تفصلنا عن اكتمال حلقاتها أيام قلائل، في الثامن عشر من هذا الشهر، نوفمبر المجيد، نوفمبر الذي ارتبط بكل عماني وسيظل كذلك، لأنه ببساطة، غير مجرى تاريخهم، إنسان وأرض، بشر وحجر.

يوم هيأ له القدر، وحجز له التأريخ فيه صفحة جديدة، تمهيدا لتدوين مسيرته وملحمته الجديدة، التأريخ أيضاً يرد الجميل بطريقته الخاصة لمن له بصمات سابقة عليه، وعمان التاريخية كانت كذلك، فرد لها هذا الجميل، وأفرد لها في "18نوفمبر 1940" يومًا، يوم ميلاد القبس قابوس في حصن القصر بصلالة صفحة ستظل تأريخاً يبنى عليه بهمة أبنائها المعهودة، تناغم عجيب حدث بين المولود واسمه "قابوس" القبس الذي كان له منه نصيب.

إنِّه العلي القدير ينسج خيوط أقداره بين عباده.

لم تكن البشرى التي عمَّت عُمان في ذلك اليوم، رغم ما كان يكتنفها من ظلمه، هي التي جعلت من شاعر صلالة، يصفها بأنها كانت تتلألأ نورا كلندن، رغم أنَّه لم يرَ لندن، إنه لسان حال العُمانيين الذين تأملوا في المولود النهوض بعُمان إلى ما تستحقه وما يصبون إليه بإذن الله، وأن على يديه سيتهيأ لها مستقبل مجيد يربطها بماضٍ تليد.

هيأ القدر للمولود الطفل، خير تهيئة منذ نعومة أظفاره، علمه والده الفروسية صغيراً، فقد ذكر السلطان قابوس في أحد أحاديثه، أنَّه كان يمتطي الخيل من أولى سنوات عمره، وقد وقع من على ظهرها وعمره أربعة أعوام، وأنَّ هذا ما جعله يتشبث ثم يشغف بها وبالفروسية ويسلك طريق التحدي من طفولته، عهد بتعليمه منذ الصغر لأساتذة مربين أفذاذ، أدخل بعدها المدرسة السعيدية بصلالة، وعهد إلى أنجب مدرائها، وآخرهم معلمه الأول الأستاذ عبد القادر الغساني بالإشراف المُباشر على تعليمه.

في العام 1958 بعث ليُواصل تعليمه في إحدى المدارس الخاصة بلندن، وكانت نقلة نوعية، شكلت فارقاً، التحق بعدها في العام 1960 بأكاديمية سانت هيرست العسكرية الشهيرة لمدة عامين، تخرج منها برتبة ملازم ثانٍ، انضم بعدها إلى إحدى الكتائب العاملة في ألمانيا الاتحادية لمدة ستة أشهر، مارس خلالها العمل العسكري النظامي الميداني، ثم تلقى تدريباً في أسلوب إدارة الحكم المحلي، ودورات في شؤون إدارة تنظيم الدولة، هيأ له بعد ذلك القيام بجولة حول العالم، استمرت لثلاثة أشهر، زار خلالها العديد من دول العالم، عاد بعدها إلى صلالة في العام 1964.

بعد هذا المشوار الحافل الطويل، وتلقيه لأحدث العلوم العسكرية والتعليم الغربي، أصر والده السلطان سعيد، على أن يُكمل مشوار التحصيل العلمي وبناء الشخصية، بتلقيه العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وتأريخ وثقافة عُمان على أيدي نخبة من الأساتذة العمانيين، هذه الحصيلة التي قال عنها بأنه كان لها عظيم الأثر في توسيع مداركه ووعيه بمسؤولياته تجاه شعبه العُماني أولاً، والإنسانية عمومًا.

تواصلت أيادي القدر، ليدون يوماً آخر لعُمان توأم رديف للثامن عشر من نوفمبر، "23 من يوليو 1970"، الذي امتطى السلطان قابوس فيه الصهوة وانطلقت الصحوة، نهضة آثارها لا تخطئها عين من له عين ترى أو أذن من له أذن تسمع، صحوة عُمان 23 يوليو لم تقتصر على عُمان، فقد كانت الأيادي القابوسية فيها ممتدة حتى للبعيد، في الداخل كانت النهضة بالتزامن مع الوحدة الوطنية للجسد العماني، بعد أن تمزق أو كاد، وكما هي الأرواح العظيمة والهمم العالية، تمتد الأيادي إلى محيطها وماحولها وتشمل وتعم آخرين، كانت اللحمة الخليجية ابتداء بتأسيس مجلس التَّعاون، كان السلطان، رجل السلام، بل الروح الإنسانية التي تسعى لرأب الصدع ولملمة الشمل لكل من تصدعت جدران روابطه مع جيرته أو حتى تفارقت آيدلوجياته مع غيره.

أي تأريخ هذا الذي سُطر، وأي مداد حبر ودواة لهذا القلم الذي به دونت حتى لتنوء بحمل نتاجه الصحف، لا نحتاج لسرد عشرات الجوائز التي منحت للسلطان قابوس من أهم وأكبر ملوك ورؤساء دول العالم وشعوبها، ولا للتذكير بيوم فراقه ورحيله، الذي توافد فيه على عُمان للتعزية أضداد المتنازعين في داخل الدولة الواحدة في معظم الدول في هذا الزمن الرديء، وليس بحاجة منا حزنا لنتذكره، بل السير في نهجه، اخترت في حياتك بساطة رحيلك وبنفس السيارة العسكرية الجيب التي أطللت فيها علينا قبل خمسين عاما، لن تحتاج منِّا كل ذلك، لأنك كنت تعلم قبل رحيلك بأننا سنحملك في سويداء القلوب ماحيينا وسنورث ذلك لأبنائنا وأحفادنا، ستظل ألسنتنا وأفئدتنا وكل جوارحنا، تلهث بالدعاء "رحم الله قابوس".

تعليق عبر الفيس بوك