لا خوف من السنوات العجاف

يعقوب بن محمد الرحبي

yaq98@hotmail.com

الخطط الصحيحة كفيلة بالنجاح، بعد أن عجز ممن حول الملك من الأكابرة والخواص عن تفسير تلك الرؤيا التي أشار إليها  القرآن الكريم في سورة يوسف الآية (46)، كانت في نظر القوم أنها مجرد أضغاث أحلام، ليس لها أي مدلول اقتصادي أو اجتماعي، {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} وتشبيه هذه الرؤيا بالأضغاث، يعود لكونها تمثّل مجموعةً من الأشياء المتفرقة في طبيعتها والتي تختلط فيها المفاهيم لدى الإنسان، قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ} لنفسّر لك طبيعته ومدلوله.

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين من الزمن، {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} من خلال وسائلي الخاصة للمعرفة، {فَأَرْسِلُونِ} إلى الشخص الذي يملك سرّ المعرفة للأحلام، وهكذا أرسله الملك وخاصته إلى يوسف، فبادره بقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} أيّ ماهو هذا المعنى الذي يحتويه هذا التصريح، هل له دلالة، لقد عجزنا عن فهمه، وعاش الجميع في حيرة من ذلك، وتحوّل الأمر إلى ما يشبه القلق على المُستقبل الذي ينتظرنا جميعاً، وكلنا مشدودون إلى تفسيرك، وملهوفون إلى جوابك، فأعطنا الجواب، {لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة الأمر فيطمئنون إلى مستقبل حياتهم، ومستقبل أولادهم .{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} بدون انقطاعٍ {فَمَا حَصَدتُّمْ} منه {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} وأحفظوه بطبيعته لئلا يتلف ويهلك، ولا تتصرفوا فيه {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} مما تحتاجونه في الغذاء بكل اقتصاد، {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} بما تواجهونه من حالة الجفاف والجدب التي تتحوّل إلى مجاعة وحرج وشدّة في أكثر من جانب، مما يجعل النَّاس يأكلون كل ما أختزنوه في سني الخصب والرخاء، {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } وتدّخرون وتحتفظون به من القليل، كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم وأكلهم، فيقدمون لها ما ادّخروه من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم، وبذلك تصبح البقرات السمان، رمزاً لسنيّ الرخاء، والبقرات العجاف رمزاً لسنيّ الشدّة، وكذلك الحال بالنسبة للسنبلات الخضر والسنبلات اليابسات.

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فيأتيهم الغوث من الله بالمطر الذي يروي، ويغذي الينابيع، ويُرفد الأنهار، فتخصب الأرض وتخضر وتؤتي أكلها في كل موسمٍ، وينصرف الناس إلى استغلال خيرات الأرض من الثمار وانتعاش الثروة الزراعية والحيوانية والصناعية (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) النحل (80)، لأن الحياة كلها مرتبطة بماء السماء، ثم تنكشف الغمة وترجع الحياة إلى طبيعتها، بعيداً عن كل العوامل الطارئة التي تمنع الأرض خصبها، والسماء بركاتها.كانت خطة يوسف خطة اقتصادية جديرة بالاهتمام، لاجتياز الأزمة التي تمر بنا اليوم وغدا، كان يوسف في موقف الموجّه إلى ما يجب فعله في السنين السمان والعجاف، ولهذا كان خطابه لهم أن يزرعوا دأباً، ثم أمرهم أن يذروه في سنبله، ولا يستثنوا منه إلا القليل مما يأكلونه، وبأن يدخروا منه في السنوات العجاف، ثم ينتهي ذلك الكابوس فلا يحتاجون عند ذلك إلى أي إجراء آخر، وربما قصد من ذلك الإيحاء بأنه يملك الخطة التي تنظّم لهم اجتياز الأزمة الخانقة في زمن الشدّة، عبر تحقيق التوازن في زمن الرخاء، كوسيلةٍ من وسائل الاحتراز، يوسف عليه السلام وضح الأسس والقواعد التي يبنى بها الاقتصاد والاستدامة المالية من خلال استثمار الموارد الطبيعية والادخار، ثم وضح القاعدة الأخرى قال (اجعلني على خزائن الأرض إني لحفيظ عليم ) أي لابد من تعيين مسؤولين أصحاب أمانة وممن يملكون الخبرة، للحفاظ على خزائن وثروات الدولة.

فما أشبه اليوم بالبارحة، عند انخفاض أسعار النفط بالأسواق العالمية منذ عام 2014، دعا الخبراء المختصين في دول المنطقة إلى التفكير في المطالبة بتبني رؤية إستراتيجية موحدة لتنويع قاعدة الاقتصاد، خاصة أنها ليست المرة الأولى على مر التاريخ الحديث، حيث سبق أن عاشت المنطقة في فترات سابقة أزمات نفطية مماثلة ومتذبذبة، وعانت موازناتها لسنوات عديدة من العجز دون أن يحملها ذلك على تنويع مصادر الدخل أو الادخار، في وقت يراد لهذه الدول أن تظل رهينة استهلاكية  دون إنتاج. ومما  لا يختلف عليه  اثنان من أن أسواق المال العالمية وبالأخص الخليجية تأثرت بشكل مباشر بالتراجع الكبير لأسعار النفط وزاد ذلك الانخفاض جائحة كرونا خلال هذا العام 2020م، وتذبذبت أسعار السلع المختلفة حتى في صلب الحياة المعيشية للمواطن والمقيم، مثل السلع الاستهلاكية والمأكولات اليومية وغيرها، بل إن المواطن بات مذعورا من هذا الهبوط، وما يحمله الغد من مخاوف إقتصادية، لذا جديرا  بنا كأفراد وحكومات من أن  نتبنى خطة يوسف عليه السلام، إنها ليست للتخويف أو إثارة الهلع بين الناس بل لنكون مستعدين للأسوأ لا سمح الله، رغم أننا متفائلون كثيرا بالخير لهذا الوطن، ولكن يستشف من دعوته عليه السلام بأن السنوات العجاف تحتاج إلى خطة ادخار وتقشف، ومؤشرات رؤية رفع الدعم الحكومي عن كثير من الخدمات وتطبيق الضريبة المضافة، وزيادة في بعض السلع وبعض الإجراءات، فخطة يوسف عليه السلام تكمن في من يملك السيولة اليوم فلا بد من الادخار للغد، وأن يحتفظ على الأقل منها بنسبة لا تقل عن 25% والبعد عن استثمارها أو صرفها.

كما يجب الحذر من الدخول في أسواق العقارات، فالأسعار في قمة التضخم، وما تدفعه اليوم لشراء قطعة أرض لربما بعد سنة أو سنتين من الآن قد يشتري لك من 3 إلى 4  قطع أراض في نفس المكان، التقليل من الصرف على الكماليات من أجهزة إلكترونية والهواتف النقالة، وأدوات التجميل، وإكسسوارات وملابس نسائية، والتقليل من الإنفاق والإسراف في المناسبات، في ما يمكن أن تستمر الحياة بدونه.

ويجب ألا يكون تغيير سيارتك أو هاتفك أو أثاث منزلك إلا قدر حاجتك ووفق إمكانياتك، وأن لا نرضخ أمام طلبات ورغبات أنفسنا، أو زوجاتنا أو أطفالنا، لكن نحاول أن نشرح لهم الهدف من هذا الإجراء وهو تأمين مستقبلهم بإذن الله، وتوفير مبالغ مالية للحالات الطارئة والمهمة، وأن لا ننساق أو ننجر خلف الإعلانات والشائعات، والأهم ألا نقارن بتصرفات الغير من أقارب أو أصدقاء، وكذلك أن نوسع من تنوع مصادر الدخل على مستوى الحكومات والأفراد.

وفي خضم هذا الوضع لا نحرم أنفسنا وأموالنا البركة بالزكاة والصدقة منها، والأخذ بيد الآخرين في خلق وظائف لهم أو مصدر رزق تحت ظل هذا المجتمع المتكاتف المتراحم.

تعليق عبر الفيس بوك