لكَ رسالتي.. إن كنت مُربيًّا

 

 

 

خولة اللوغاني

مع بداية العام الدراسي، انتابني الفضول حول طلاب صفي لهذه السنة، أولئك الأطفال المليئين بالأحلام.. الذين لا يتوقفون عن مدِّ أيديهم لي لأخذها ليعبروا سُلم هذه الحياة، تشوَّقت كثيرًا لأرى أعينهم اللامعة التي لا يزال بريقُ براءتها يسطع وكأنه الأفق، إلى أنْ جاء وقت اختبار قدراتهم، فأنا مُلزمةٌ حتمًا بمعرفة ما ينقص كلًّا منهم لأستطيع الأخذ بيده فيما ينقصه.

ولكن لن أنسى ذلك اليوم الذي أوقفت فيه طالبي وسأسميه لكم بـ"مثابر" الطفل الذي يكبر سن الثامنة ببضع أسابيع أي أنه في الصف الثالث الأساسي، لن أنسى عندما طلبت منه قراءة الجملة، ولكنه -مرتبكًا- كان أول ما جاء على لسانه أن قال لي: لا أعرف شيئًا أستاذتي!

وصاح كل من في الصف: يا أستاذة هذا طالبٌ لم يقرأ قط ولا يعرف شيئًا!.. فابتسم "مثابر" مرة أخرى وهمَّ بالجلوس مرتاحًا من عناء المحاولة!

حينها استثارني ركُونه للراحة رغم أنه بالأمس أجاب عن عدة أسئلة من ذاكرته القوية عندما قصصت لهم قصةً.. كيف له ألا يعرف القراءة وهو من أذكى طلاب الصف؟! لم أستطع الراحة تفكيرًا به وبحاله.

فاستدعيتُ أمه لتحضر للمدرسة في أقرب فرصة لها. لم تقصِّر فقد حضرت، وكانت متعاونةً معي إلى أبعد حد؛ فقد أجابتني عن كل الأسئلة التي طرحتها عليها عن أسباب ما فيه صغيرنا "مثابر". فصدمتني قائلة: والله يا أستاذة أنا محتارةٌ كثيرًا في حاله، فـ"مثابر" ذكي جدًّا لكنه لا يقرأ أبدًا ولا يرضى حتى المحاولة معي فله أخوان ذكيان جدًّا وفي المراكز الأولى دائمًا... كيف لأخيهما أن يكون هكذا؟! وحتى إنه كثير الشقاوة فهو يحرجني عندما نزور الأهل بأفعاله الفوضوية، حتى إنَّهم صاروا يرفضون زيارته لهم وكان يُؤلمني ما يلقى منهم من ألفاظ قد شكلت منه هذه الشخصية المحبطة.. طلبتُ منها أن تشجعه دومًا وألا تسكت لأي إحباط قد يغرسه الآخرون في "مثابر"...وشكرتها على تعاونها معي ثم انصرفت.

ظللت عدة أيام محتارةً فيما أفعل مع طالب ذكي دائم الارتباك.. كيف لي أن آخذ بيده؟!

لكنني رأيت أثر التشجيع على أدائه فأخذت بتشجيعه. لقد رفض في بادئ الأمر التحرك بشخصيته المتشبعة بالإحباط وهو لمدة ليست بالقصيرة قد اعتاد على قول "لا أعرف" وفضل الجلوس مرتاحًا وإطلاق النكات في الصف، حتى إنه عندما هممت بتكريم المتميزين قال لي: أستاذتي "أنا.. من سابع المستحيلات أن تكرميني".

هزني قوله ذاك -هل استطعتم معي تصور مدى الانكسار في نفسه؟!- وكل ذلك من أثر المجتمع الذي أحاط "مثابر" بهالة من الذعر من الفوز أو الرقي للأفضل.

فقلت له مُعنِّفةً: من قال لك إن الفائزين ثابتون؟! فأنت بذكائك ومثابرتك ستكون من أول المرشحين للفوز! فالمهم ليست الدرجة الكاملة بقدر أهمية التطور للأفضل، وكل من لا يتطور فهو منسحبٌ من المنافسة.

شعرت حينها بأن هذا جعل من مثابرنا يلتفت للأمر باهتمام، وأن بصيصًا من الأمل قد تسلل إلى نفسه.

رسمتُ للطلاب شكل الهدية، وأوضحت لهم شرط الفوز بها.

جاءني "مثابر" مهتمًّا لمعرفة كيف له أن يفوز هو بالجائزة، أعطيته كتيبًا صغيرًا يحتوي على حروف وكلمات تتدرج في أساسيات تعلم اللغة.

تلقيتُ في المساء رسالةً عبر هاتفي وإذا بها من أم مثابر تحتوي فيديو له وهو يذاكر باهتمام الحروف والكلمات.

وما هي إلا أيام حتى ميز "مثابر" أغلب الحروف إن لم تكن كلها.. مرت الأيام وبدأ مثابر بتهجئة كلمات من تلك الحروف.. أوقفت مثابر أمام الصف، طلبت منه أن يقرأ من درسنا، بدأ بالتهجئة إلى أن أكمل جملةً كاملةً بصوت عال.. جملةً كاملةً بعد معاناة طالت من اعتقاده بأنه لا يستطيع.. لم يخف "مثابر" رغم بطء قراءته فقد أنهى جملته وعاد إلى كرسيه وهو يكاد يطير فرحةً بإنجازه العظيم.. ولم تتوقف محاولات "مثابر" منذ ذلك اليوم ، وإلى الآن.

وهنا.. رسالتي إلى كل ولي أمر، فلننتبه للكلمة التي نلقيها على هؤلاء الأطفال، فليسوا كلهم كـ"مثابر".. بعضهم لا ينسى الكلمة الموجعة ويحملها معه في شبابه وكهولته لتكون سببًا في هدم شخصية وحلم كان يستطيع بذلك الحلم تغيير هذا العالم لو أننا فقط اخترنا ألفاظًا أفضل.. "شجعوهم لتكسبوهم وتفخروا بهم في الغد القريب بإذن الله".

تعليق عبر الفيس بوك