د. صالح الفهدي
لا تكادُ جهةٌ من جهات العمل تخلو من الشخصيةِ الاستبداديةِ، فقد عايشنا، ويُعايشُ غيرنا في كل مكانٍ هذه الشخصيةِ المريضةِ التي تعدُّ مصدراً من أعظم مصادر الإخفاقات في أيَّة بيئة عمل، لأنها شخصيةٌ تتخالطُ فيها الأمراض النفسية من ساديةٍ، وحبِّ تملُّكٍ واستحواذٍ، وحسدٍ، وفوقيَّةٍ، وغيرها مما يُرى في الظاهرِ، وما هو خافٍ على النَّاس.
الشخصية الاستبدادية على اختلاف مستويات الوظيفية تعاني من عقدةِ نقصٍ شديدٍ، تترجمهُ في أفعالٍ صادرةٍ منها، فهي تعاقبُ من لا ينحني لها إذلالاً، ولا يمنحها اهتماماً، ولا يُشعرها بفوقيَّتها عليه، ولا يُظهر أنهُ قزمٌ أمامها..! هذه الشخصية تستشيطُ غضباً، وتحتدمُ اضطراباً، وتمورُ غيظاً أمام كل من يُواجهها بالتجاهل، واللااكتراث، فتصنِّفه في قائمتها السوداء التي لا تستحقُّ إلا الإذلال والمهانةِ والتسفيه، فتمارسُ عليه الصلاحيات الممنوحةِ في يديها من إعاقته عن الدورات التأهيلية والتدريبية، وحرمانه من الترقي في الدرجات المالية، والمناصب الإدارية، وتهميشهِ في العمل من أجلِ تحطيمهِ وتدميره..! هذه الشخصية الاستبدادية لا تسرُّ بالتعامل مع من يشعر بالأنفةِ والاعتداد بنفسه، والثقة بقدراته، والتمسُّك بمبادئه، وإنما يسرُّها التعامل مع الذين يتنازلون عن أي مبدأ في أيَّةِ لحظة من أجل مصلحة، ويخضعون رقابهم إذلالاً لهذه الشخصية من أجل استرضائها، والتحبب إليها، لأنهم يعلمون أنَّ حصولهم على المصالح لا يتم إلاَّ بإخضاعِ الرقاب، وإهانةِ النفس، وتحمل سياطها، وهذه لا يرضاها الحرُّ، العفيفُ الشريف.
بيئات العمل تشقى شقاءً عظيماً بمثل هذه الشخصية الاستبدادية التي لو لم تكن هي شخصية رئيس الوحدة فإنَّ وجودها في أيَّةِ وحدةٍ أو منظمة أو مؤسسة (سمِّها ما شئت) دليل على ضعف شخصية رئيس الوحدة الذي سلَّمها القرار لأنه إمَّا أن يكون هو الآخر واقعٌ تحت سلطتها ونفوذها بسبب ضعف شخصيته، وقلَّة خبرته، وعدم اكتراثه بمسؤولياته، وإمَّا أنه تجمعه مصالح معيَّنة بهذه الشخصية، أو أنَّ هذه الشخصية تملك دعماً من خارج المؤسسة يجعلها في وضعٍ أقوى من رئيس الوحدةِ ذاته..! لهذا يعيشُ المرؤوسون لغزاً لا يجدون له تفسيراً سوى هذه التفسيرات: رئيس وحدةٍ دمث الأخلاق، لطيف التعامل مع المرؤوسين، لكنَّه لا يكاد يفعل شيئاً أمام جموح وتهوُّر الشخصية الاستبدادية التي تقع وظيفياً تحت مسؤولياته، رغم ما يسمع ويشهد من تجاوزاتها، وتعدِّيها على حقوق الموظفين، وظلمها لهم، وهو صامتٌ، بل إنِّه في بعض الأحيان يشاركهم بإشاراتٍ معينةٍ لفظية أو سلوكية عدم رضاهُ عن هذه الشخصية الاستبدادية بيد أن يداهُ مغلولتان أمام هذه الشخصية التي أنهكت المرؤوسين بسبب أفعالها غير العادلة في بيئة العمل.
وإليكم بعض أفعال الشخصية الاستبدادية لكي تتعرفوا عليها في بيئات العمل فهي تحب مُمارسة التجسس على المُوظفين، وتحاول تجنيد بعض المقربين إليها جواسيس لها لنقل المعلومات عن هذا الموظف وتلك الموظفة..! هذا التجسس يمنحها شعوراً بالاستحواذ والتملُّك الذي يسدُّ بعض النقص فيها على الآخرين، بحيث إن اقتناص كلمةٍ، أو عبارة، أو فعل على موظف أو موظفة يجعلهما تحت ضغطه ونفوذه وتسلِّطه عليهما وهو مصدر لذَّةٍ ساديةٍ لها..! تحرصُ هذه الشخصية على مُراقبة الحضور والانصراف أكثر من حرصها على مُراقبة الأداء والإنجاز ليس لأنَّ صاحب هذه الشخصية مهتم أصلاً بالحضور والانصراف وإنَّما لمُمارسة نفوذه وسلطته على موظفيه، لهذا فهو مستعد للتخلِّي عن أعمال مهمَّة، وكبيرة والتفرُّغ لسؤال: في أيِّ ساعة داوم فلان، وفي أيِّة ساعة انصرفت فلانة..!.
كما تصادر الشخصية الاستبدادية القرار من المرؤوسين فتتفرد به لأنها تريدُ أن تكون هي المرجع الأخير الذي يخلِّدُ التاريخ توقيعه على القرارات التي تبقى دهوراً طويلة حتى تتلف في لوائح القرارات! ومن علامات الاستبداد في هذه الشخصية أنها تستحوذ على كل تفاصيل أعمال موظفيها، سالبةً منهم الثقة التي يجب أن يتحلَّوا بها لكي يبدعوا وينجزوا و(يحلِّلوا رواتبهم)، ويشعروا بسعادةِ من قام على إنجازٍ مُعينٍ لأجل مؤسسته، لكن أصحاب الشخصيات الاستبدادية لا يريدون أن يمنحوهم هذا الشعور بالسعادة، ولا الإحساس بالإنجاز وإنما تريدهم أن يخضعوا لإرادتها، وأمزجتها، وأفكارها، حتى يصبح كل عملٍ منجزٍ بتوقيعها، وختمها، ووفق أهوائها سواءً أكانت عقيمةً أم سليمة لأنهم الأكثر دراية وخبرة وفهماً..!
ومن علامات الاستبداد في أصحاب هذه الشخصيات الاستبدادية أنَّ الرسائل الإدارية لا تُغادر مكاتبهم بسهولة فهم يدقِّقون في الإملاء، والفواصل، ونوع الخط، والألوان، وقائمة طويلة من التعقيدات التي تجعل من الرسائل الإدارية مهمةً مضنيةً تتطلب جهداً عسيراً، وصبراً متكلِّفاً يضيق على نفس من يكتبها..!
الأدهى في الأمر أنَّ لهذه الشخصيات الاستبدادية في بيئات العمل عمراً طويلاً تمارسُ خلاله التدمير والتحطيم لأجيال تمتلك الكفاءات والقدرات فتنسحب فوجاً بعد فوج وصاحبُ الشخصية الاستبدادية راسخٌ مكانه لا يتزحزح رغم دعوات النَّاس عليه في كل وقتٍ وآن بما تجنَّى عليهم من ظلم واستبداد..! لكن يبدو أنَّ جذوره عميقة في الوحدة فليس من السهل اقتلاعها، وهنا يسهلُ على صاحب القرار القادرِ على إزاحتهِ أن يعرِّضَ الوحدة بحالها إلى خسران الموارد والكفاءات على أن يزيحه من مكانه، وقد تكون جذورهما مُتشابكة في أعماق التربة فيقتلعُ بذلك نفسه..!
أردتُ بهذه المقالة أن ألفت الأنظار إلى هذا النمط من الشخصيات التي تتعامل مع الوحدات التي تعمل بها وكأنها شركات خاصة تملكها، فتمارس أقصى ما تستطيع من درجات الإذلال والمهانة للمرؤوسين لإخضاعهم لسيطرتها، وأنبِّهُ إلى أنَّ هذه الشخصيات الاستبدادية قد وضعت من (فرَّختهم) في أقفاصها في مناصبَ لا يحلم بها أصحاب الكفاءات الذين همَّشتهم، وأقصتهم في زوايا النسيان والإهمال.
وما لم يُنتبه إلى مثل هذه الشخصيات المريضة فستظل أغلب الوحدات التي تنشر فيها سمومها، وأسقامها تُعاني من عُقدهم النفسية، لا يكاد صاحب كفاءة أن يستقر فيها حتى يضيق به الأمر فإما أن يقفز منها إن وجد فرصة أفضل وإما أن يشتغل عقله بالهم عوضاً عن الاشتغال بالأداء الحسن..!
لهذا لا تحاسبوا الموظف إن ضعفَ أداؤه، وهزل إنتاجه إن كان على رأسه مسؤول صاحب شخصية استبدادية فهو مُجرَّد منفِّذ لأوامره، ومطيعٍ طاعةً عمياء لتوجيهاته..!
لا تحاسبوا الموظف إن بدأ يُهمل في واجباته العملية، ويتسيَّب من عمله، ويقصِّر في أدائه إن كان على رأسهِ من يحاسبه على الحضور والإنصراف ولا يلتفتُ لإنجازه، ولا يكترثُ لأدائه..!
لا تحاسبوا الموظف إن ضعف رضاه الوظيفي، وتدنَّت معنوياته، إن كان على رأسه مسؤول مستبد يسحق كرامته، ويصادر حقَّه في الإبداع والابتكار والتعبير عن قدراته.
قبل هذا وذاك حاسبوا الشخصيات المستبدة في بيئات العمل، وحاسبوا من ترك لها الحبل على الغاربِ وسلِّمها مفاتيح الأبواب، والقرارات، والمصائر لتفعل ما تشاء.. حين ذاك يمكن أن تسلم الوحدة من هذه العقليات المريضة، فتتجه نحو تحقيق الأهداف العليا، بعقليات سليمة، وبصائر حكيمة، وكفاءات عالية، ومساحةٍ واسعةٍ من التقدير للإبدع والابتكار والإنجاز.