كنت هناك!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"لايُمكن لأيِّ نشاط تنموي، تجاري أو خدمي أن ينشأ في ظل الخوف وعدم الطمأنينة"، د. قاسم الصالحي.

 

صدرت كتب كثيرة تتعلق بتوثيق أحداث سياسية واجتماعية وغيرها كتبها من الذين شهدوا الحدث وعايشوه وعرفوا مبرراته وأدق تفاصيله ومآلاته، بالطبع ومع كثرة الإصدارات ذات الصلة، هناك كتب اشتهرت وراجت نظرا" لمكانة الكاتب ومصداقيته وأهميته في سياق الحدث، كلها نقاط تكمل بعضها.

في ذروة الربيع العربي الذي كان في الواقع الحقيقي خريفاً وليس ربيعاً بالمعنى المعروف، اجتاحت المظاهرات والثورات عدداً من البلدان العربية، وبطبيعة الحال لن أدخل في تفاصيل معروفة، ولا علاقة لها بموضوع المقال، لكني سأتحدث عن كتاب وصلني من منصة زاد المعارف بعنوان: "كنت هناك" تأليف السفير العُماني قاسم الصالحي (1) في ليبيا أثناء فترة سقوط حكم العقيد مُعمر القذافي، وهو يتحدث بحديث نستطيع وصفه بالمذكرات أو اليوميات، أو حتى تأريخ تلك الأيام الفاصلة من تاريخنا المعاصر، وأهمية الكتاب ترجع إلى أنَّ كاتبه سفير لدولة لاتحكم بناءً على آيديولوجية معينة، ولم تكن قد تعرضت لهذا الربيع الهادم، كذلك تزداد الأهمية لأنه سفير دولة عرفت بحياديتها الإيجابية، لذلك سيتوقع القارئ أن تكون المذكرات منصفة ومحايدة وليست مع طرف ضد طرف، كذلك كما أسلفت يضمن القارئ أن الكتاب لا تسير كلماته آيديولوجيات ومفاهيم وشعارات سياسية أكل عليها الدهر وشرب.

منذ بداية الكتاب يقوم المؤلف بعرض تاريخي للعلاقات بين عُمان ودول المغرب العربي حيث يرجع للتاريخ الإسلامي وما بعده، ويذكر رحلات العُمانيين هناك للتجارة والتواصل الحضاري، وركز على الانطباع الطيب الذي تركه أؤلئك الرحالة في نفوس الليبيين.

ثم الحديث عن أحد علماء قادة الجهاد في ليبيا أثناء الغزو الإيطالي الشيخ سليمان باشا الباروني، وعلاقته مع عُمان، حيث يتحدث عن جيل الباروني الذي ضم عمالقة قاوموا الاستعمار أمثال عمر المختار وبشير السويحلي وكانوا عنصرا أساسياً ساعد في حصول ليبيا على الاستقلال والاستقرار حيث كان الباروني سندا سياسياً قوياً للذين حملوا السلاح في الميدان، ويتحدث المؤلف فيذكر أنَّ الباروني بعد أن أصبح عضوا" في مجلس المبعوثان، زادت اتصالاته مع عُمان، وعمل على تعزيز علاقات عُمان مع الدولة العثمانية قبل أن تخرجه الدول الكبرى من ليبيا وتمنعه من دخول أي بلد عربي، نتيجة خوضه معارك ضد الإيطاليين غرب ليبيا، ليبقى منفياً" في فرنسا أربع سنوات إلى أن قدر له الحصول على إذن من الشريف حسين أمير الحجاز لتأدية فريضة الحج، حيث سافر إلى مكة المكرمة ومنها إلى عُمان واستقبل استقبالا "لائقا"رسميا" وشعبيا".

وعندما استقر به المقام في عمان عام 1924م .استمر بوضع بصماته السياسية على الواقع العُماني حيث ساهم بإزالة الخلاف يومئذ بين السلطان تيمور بن فيصل والإمام محمد الخليلي، ويستمر المؤلف بالحديث عنه حتى يصل إلى عام 1940م .عندما اختاره السلطان سعيد بن تيمور مرافقاً" له في زيارته للهند، بسبب ظروف الباروني الصحية، فتكون فرصة له لمُراجعة الأطباء بمستشفيات بومباي، إلى أن قدر الله أن يتوفى هناك في الأول من مايو 1940م

ماسبق هو اقتباسات بتصرف مما كتب المؤلف عن سيرة تلك الشخصية التاريخية المؤثرة التي تحتاج للبحث والتنقيب، ولعل المؤلف وجدها فرصة مناسبة للتطرق له وذكر جزء مهم عن هذه الشخصية التاريخية، وأيضاً" أعتبر أنَّ هذا ذكاء من المؤلف لربط الأحداث واستدخال شخصيات تغني البحث، وتزيد في المعلومات.

كذلك تحدت المؤلف بإسهاب عن لقاء وزير الخارجية العُماني السابق يوسف بن علوي بالعقيد القذافي، وهو اللقاء الذي تمَّت إثارة ضجة حول مجرياته، وشرح كيف كانت الأمور وأثناء عشاء السنوسي، والطريق الصحراوي للخيمة في جو بارد جداً"، وتقديم حليب النوق لابن علوي، وطلبه بنهاية اللقاء من القذافي حيث قال: الأخ القائد، عُمان مشهورة بالإبل ونشرب حليبها، ووجدت لحليب إبلكم لذة خاصة، نطلب أن تتكرموا بأن تصحبونا بشيء منه إلى مقر إقامتنا في الفندق لنستزيد منه (2)، تأثر القذافي بهذا الإطراء على حليب نياقه، ثم قال: خذوا لهم الحليب للفندق!

وبعدها يتحدث المؤلف عن ثورة السابع عشر من فبراير التي اعتبرها هي الضربة القاصمة لظهر نظام العقيد، وسرعان ما تحولت لثورة مسلحة إلى أن تمكن المحتجون من السيطرة على العاصمة أواخر أغسطس 2011م. قبل مقتل القذافي في العشرين من أكتوبر خلال معركة سرت (3) .

 

ثم يتحدث المؤلف بشكل مؤثر عن الأمر الذي تلقاه من عُمان لمغادرة العاصمة فوراً"حرصا" على سلامته والدبلوماسيين الذين بقوا معه،  وفي خضم الأحداث الدموية وغبار المعارك، وكيف استطاع الخروج بطريقة دراماتيكية من مطار طرابلس، وسط القذائف، كان الحدث أشبه بمشهد سينمائي مرعب، حتى تنفس الجميع الصعداء بعد الدخول للأجواء الآمنة باتجاه مطار قرطاج .

 

.الكتاب يمزج التاريخ بالسياسة بالمشاهد الإنسانية، ويقدم للقارئ قراءة ممتعة ومفيدة تنقله وكأنه في داخل تلك الأجواء التي تمكن المؤلف من توثيقها بقلم الأديب حيث تظن أنك تقرأ كتابا"أدبيا" بسبب الأسلوب المكتوبة به الأحداث وهو ما ينم عن الثقافة العالية التي يتمتع بها المؤلف.

 

 

 

________________________

1_ قاسم الصالحي .أول سفير  لسلطنة عُمان في ليبيا من 2008م إلى  2016م .

2 _ صفحة 50 نفس المصدر.

3_ صفحة 66 نفس المصدر.