يوسف بن حمد البلوشي
هناك ما يشبه الإجماع على أنَّ النموذج الحالي القائم على قيادة الحكومة للأنشطة الاقتصادية والمعتمدة على إيرادات نفطية غير مُتجددة والاستيراد للسلع والخدمات والعمالة الوافدة متدنية المهارة والإنتاجية المنخفضة في القطاع العام والخاص يستوجب تحولا جوهريا، تستهدفه رؤية "عمان 2040" إلى نموذج تتعدد فيه قاطرات النمو وشراكة في قيادة الأنشطة الاقتصادية مع القطاع الخاص والقائم على الإنتاج المحلي وزيادة الصادرات.
بهذا النموذج المُتجدد تكون العمالة الوطنية هي قاطرة النمو الرئيسية ويتم العمل على تعزيز الإنتاجية والتطوير والابتكار والمكون التكنولوجي والقيمة المضافة المحلية وتعزيز الإيرادات غير النفطية. الأمر الذي لن يحدث تلقائياً مهما صدقت النوايا والرغبات حيث يستلزم الأمر تحولا صريحا في الأطر المعمول بها حالياً في مختلف الأجهزة الحكومية وكيفية إدارة القطاعات الاقتصادية المختلفة، وقد تكون الأطر الحالية أدت دورها بنجاح في المرحلة المنصرمة وإلا أنها غدت غير قادرة على مواكبة احتياجات المرحلة القادمة المتمثلة في خلق فرص العمل المنتجة للأعداد المتزايدة من أبناء الوطن في القطاعات الإنتاجية وليس في الحكومة وكذلك الحاجة الملحة لتوسيع القاعدة الإنتاجية وخلق صناعات وطنية قادرة لتلبية الطلب المحلي وارتياد أسواق التصدير لتوفير العملة الأجنبية.
ومن وجهة نظري، أنَّ مصادر النمو لوطننا العزيز يجب أن تكون مبنية على ثلاثة عناصر رئيسية؛ هي: مصادر طاقة، وإيرادات متجددة، وعمالة عمانية ماهرة تساهم في تحقيق إنتاجية مرتفعة. فالإنتاجية المنخفضة مرتبطة بدرجة كبيرة بثلاثة عوامل الأول منها مرتبط بالكفاءة الإنتاجية للعمالة كون السوق العُماني معتمداً بشكل كبير على عمالة متدنية المهارة (91% من العمالة في القطاع الخاص تملك مؤهل ثانوية عامة فما دون) والعامل الثاني إنتاجية رأس المال؛ حيث إنَّ تكلفة إنتاج الوظائف وخلقها مكلف جداً لأنَّ السلطنة تستثمر في مشاريع كثيفة رأس المال والعامل الثالث هو محدودية المكون التكنولوجي والتطوير والابتكار في الأنشطة الاقتصادية، ولذلك يجب علينا التعامل الجاد مع تلك العوامل إذا ما أردنا تحقيق الوثبة المطلوبة والتحول المحوري في النمو الاقتصادي وزيادة القيمة المضافة المحلية وهذه عناصر مهمة للمرحلة القادمة.
ومنذ سنوات لدينا ترسبات وبيروقراطية وسلسلة إجراءات طويلة جداً قيدت تقدمنا وأفقدتنا المرونة المطلوبة للتعامل مع المتغيرات وابتكار الحلول ويجب التخلص منها بأطر أكثر مرونة ليستطيع الفريق الحالي تحقيق النتائج المرجوة. وسأذكر هنا على سبيل المثال وليس الحصر، إطار وفلسفة جذب الاستثمار الأجنبي وتشتت بوصلته بين العديد من الجهات وطريقة عرض الفرص الاستثمارية المبهمة وغير المكتملة للمستثمرين المحليين والدوليين. كذلك الإجراءات واللوائح والقيود الاحترازية في القطاع المالي التي يُمارسها البنك المركزي العماني وسوق الأوراق المالية والبنوك والمبالغة في الشروط والإجراءات والسقوف التي أفقدتنا المرونة والقدرة على المناورة واستغلال الفرص والتعامل مع الاختناقات كالتي نعيشها اليوم جراء فيروس كورونا وتدهور أسعار النفط وتعرض شركاتنا- التي نعول عليها الكثير للانطلاق بعمان للمرحلة المقبلة- للكثير من الضغوط.
وفي نفس السياق، نجد أن غرفة تجارة وصناعة عمان- وهي بيت التجار والمسؤولة عن الشركات- تعمل تحت إطار قديم وقيود إجرائية تحد من قدرتها على التدخل لإنقاذ الشركات والتي هي مصدر دخلها. فعلى الرغم من توفر رصيد مالي كبير في حسابها من مساهمات الشركات، إلا أنها غير قادرة على قيادة خطة إنقاذ وتحفيز لشركات القطاع الخاص التي تكافح من أجل الصمود، والكثير منها لن يصمد أمام رياح كورونا وتوقف الإنفاق الحكومي وتوقف المعاملات التجارية محليًا ودولياً. ولا شك أنَّ هناك الكثير الذي يُمكن تنفيذه للتعامل مع المشكلة المتفاقمة لدى شركات القطاع الخاص سواء بتشجع الشركات على الاندماج لتكوين كيانات قوية والعمل مع البنك المركزي والبنوك التجارية وشركات التمويل وتحمل جزء من الفائدة والمخاطر المرتبطة بالقروض وحزم التحفيز للشركات المتعثرة. ولا يخفى ما نطلع عليه في الجريدة الرسمية من زيادة مطردة في أعداد الشركات المفلسة وتداعيات ذلك على مجمل شركات القطاع الخاص والبنوك.
ومن المأخوذ علينا أننا كثيرا ما نتحدث عن الحلول والتنويع وتوسيع القاعدة الإنتاجية وخلق وظائف منتجة في القطاع الخاص، لكن لا ننفذ! وهذا يهدد المصداقية أمام المجتمع والمستثمرين والمقرضين والعالم. إننا في عُمان- كغيرنا من دول المنطقة- أمام مفترق طرق مهم، وقد تأخرنا كثيرا في تحفيز الاقتصاد وبناء قطاع خاص قادر على تحمل وتقاسم أعباء التنمية، لكن لا تزال المساحة كافية، وعمان تمتلك الكثير من الحلول الاقتصادية والتي نتحدث عنها ونكتبها في خططنا واستراتيجياتنا ولا ننفذها. فثمن النجاح ليس رخيصاً، والأمر يتطلب منا أن نتخلى عن النمط المريح الذي اعتدنا عليه، ونتحلى بالجسارة ونقبل المساءلة ونشحذ الهمم ليعرق الجبين ونتحمل ضغط وتفاصيل الإدارة والمتابعة المستمرة والدفاع عن وجهة نظرنا بالحجة المُقنعة والبرهان فلا شك في وطنية الجميع. والمهم أن يكون لدينا أطر للعمل تمنحنا المرونة التي تتناسب مع تغير التحديات والديناميكيات.
ولنتفق على أنَّ التحول إلى النموذج المنشود لن يتم دون خطة عمل وسياسات عامة واضحة المعالم توضح للمجتمع والشركات بشكل واضح وجلي؛ حيث من المتوقع أن تكون هناك تبعات قاسية من تطبيق بعض السياسات الرامية إلى استعادة النمو وتحقيق الاستدامة المالية والتنويع الاقتصادي في الأجل المتوسط والطويل. لذلك لزاماً أن يترافق مع تطبيق سياسات التحول الاقتصادية والمالية حملة توعوية وإجراءات احترازية لتخفيف وطأة معاناة الفئات الأكثر تضرراً من هذه السياسات وخاصة تلك ذات الدخل المحدود والشركات الصغيرة والمتوسطة.
وختاماً.. إنَّ تحديث أطر العمل المعمول بها في السلطنة هو المطلب الأكثر إلحاحا ونحتاج إلى تحول جوهري يتناسب من واقع التحديات ومتطلبات المستقبل، كما إنَّ التغيير في الأطر والفلسفة يجب أن يطال كافة المستويات بدءًا من مجلس الوزراء مرورًا بكل الأجهزة الحكومية ولنستمع إلى الحكيم العماني الذي قال إذا كنت تعمل بنفس الأطر والإجراءات والأساليب والأدوات فلا تنتظر نتائج غير التي تعهدها.