هل تحرر الغرب من خلفياته الفكرية؟

عبد الله العليان

يعتقد البعض الذين انبهروا بما يُسمى بعصر الأنوار في الغرب وإقصاء الكنيسة الغربية، أنَّ الغرب أصبح متجاوزا الكثير من الأحكام المُسبقة، تجاه الآخر المُختلف معه فكرياً وسياسياً خاصة نظرته للإسلام والمُسلمين، وهو الآن مُختلف تماماً، عمَّا كان عليه في القرون الماضية، خاصة بعد الحروب الصليبية وما بعدها، التي انطلقت من رؤية دينية تعصبية وهي نظرة كتب عنها الكثيرون من الباحثين الغربيين أنفسهم.

لكن من خلال الرؤى والأفكار والكتابات، ومنها حتى المعاصرة والحديثة، لا يزال البعض ينطلق من نظرة دينية، تجاه الإسلام، وحدث هذا أولاً مع الاستشراق غير المُنصف الذي مهّد للحملات الاستعمارية  في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لكن المُفكر العربي الفلسطيني إدوارد سعيد، استطاع أن يكشف الغطاء عن أهداف الكثير من المُستشرقين الغربيين ورد أطروحاتهم إلى الحجم الحقيقي في عدم الإنصاف في كتاباتهم وأبحاثهم.

ولعل أهم المُفكرين العرب المعاصرين، الدكتور محمد عابد الجابري صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، الذي ناقش في مُؤلفاته الكثير من الرؤى الغربية التي لا تزال مُؤثرة في الغرب، وتطرح الكثير من الآراء التي لا تخفي رؤيتها غير المنصفة عن المتابع الحصيف تجاه العرب والمسلمين، ففي كتابه الموسوم بـ"مسألة الهوية.. العروبة والإسلام والغرب"، يقول الجابري: "إنَّ الغرب- في أغلب المفكرين والسياسيين- لم يخرجوا من  الأحكام المُسبقة تجاه الإسلام والمسلمين، وأسبابها التاريخية، لا تزال مؤثرة في عقولهم إذ إنِّه: "عندما انقلب الغرب على الكنيسة جردها من سلطاتها وأزاحها من مكانتها الكبيرة في المُجتمع الغربي، فإنه لم يتنازل كلية عن طموحات هذه البابوية وذاكرة المركزية الأوروبية وإنها محور الإنسانية وتاريخها وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً وتأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محور "الأنا" الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً.. وهذه العقلية بقيت راسخة حتى بعد سقوط البابوية وتأسيس العلمانية"، وسنكون مخطئين- كما يقول د. محمد عابد الجابري- إذا اعتقدنا أنَّ الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية والدينية وأنه الآن غرب علماني خالص عقلاني براجماتي لا غير، سنكون مخطئين إذا نحن جردنا الغرب من ذاكرته الثقافية الدينية ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين في كل من أوروبا وأمريكا فهي تفعل ذلك بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين (..) وإن الذاكرة الثقافية والدينية ما زالت تمارس فعلها في تفكير الصحفيين والمحللين وصناع السياسة من الليبراليين العلمانيين في الغرب".

هذه النظرة بحسب الجابري تتحرك فيهم، وهي كما قال في الذاكرة، وتفعل فعلها في اللاوعي، عند استذكارها، ولذلك النظرة الفوقية تتحكم في رؤيتهم للآخر المختلف، إذ إنَّ: "الإسلام عندهم- كما يقول الجابري- عدو الحضارة، وبالتالي عدو الغرب، ومن أجل قهر هذا العدو كانت الحروب الصليبية. ويقول شاتو بريان الأديب الفرنسي: "لم تدُر الحروب الصليبية من أجل إنقاذ كنيسة القيامة فحسب، بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض وهل سيكون النصر حليف ذاك المذهب الديني- الإسلام- عدو الحضارة والمكرس باستمرار للجهل والطغيان والعبودية، أم أنَّ النصر سيكون حليف دين عمل على إيقاظ عبقرية الزمن العتيد الحكيم في نفوس البشر".

وللحق أنَّ هناك أصوات في الغرب، تختلف مع هذه الآراء المُغالية والمُتطرفة، كما يفعل الآن بعض السياسيين  اليمينيين في فرنسا، ويقود هذا الطريق السلبي الرئيس إيمانويل ماكرون عندما اعتبر الإساءة من خلال الرسوم المُسيئة "حرية وحق" أن يُمارسه الناس في فرنسا! لكن هناك من الفرنسيين أيضاً من لهم آراء منصفة بعيداً عن التعصب والنظرة غير العادلة، فيقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في كتابه "سحر الإسلام" كيف أنَّه في القرن السابع عشر وبعده كان الإسلام يعتبر في الغرب رمز التسامح والعقل على النقيض من الدين المسيحي ومذاهبه المُتعصبة للعقل، فقد أخذهم ما يُؤكده من ضرورات التوازن بين حاجات العبادة وحاجات الحياة وبين المتطلبات الأخلاقية أو المعنوية وحاجات الجسد وبين احترام الفرد والتشديد على التضامن الاجتماعي. وكان التركيز كبيراً لدى المُثقفين في مواجهة المسيحية على الدور التحضيري للإسلام وعلى عقلانية الاعتقادات النابعة منه. فقط كما يقول د. برهان غليون: "منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر بدأ الأوروبيون يعتبرون أنَّ المسيحية هي سبب التقدم والنجاح في أوروبا، وأن الإسلام هو سبب العجز والتأخر في العالم العربي والإسلامي، وبعد أن كان الإسلام يستخدم كنموذج للدين العقلاني والحضاري في مُواجهة المسيحية "المتعصبة والبربرية" بدأت الآية تنعكس تماماً ليصبح الإسلام شيئاً فشيئاً مثالاً للبربرية التي تُهدد الغرب.. لقد ترسخت القناعة بأنَّ أوروبا هي قاعدة الحضارة وأن كل ما يقف في وجه أوروبا فهو معادٍ للحضارة".

ولذلك الإشكالية الكبيرة التي ترسخت فعلاً عند بعض النخب السياسية والفكرية، بأن الإسلام هو العدو الذي يجب أن يواجه وأن يصارع، وهذه نظرة سلبية وضد السلام والوئام، من هنا على عقلاء الغرب ومفكريه ألا يستعيدوا التاريخ، وأن ينظروا أن هذا العصر هو عصر التفاهم والتقارب والحوار.