د. عبدالله باحجاج
نُطلق على خطة التوازن المالي (2020-2024) السنوات الأربع لمنعطف مرحلتنا الوطنية مع الأزمة المالية؛ حيث ستكون مليئة بالتحديات الاقتصادية التي لها انعكاسات اجتماعية وسياسية، فما سيتم تأسيسه فيها سيصطبغ على مستقبل البلاد. ومن هنا، ينبغي التفكير في السنوات الأربع المقبلة على هذه المستويات الثلاثة دون إغفال أحدهم؛ لذلك فالتفكير لا ينبغي أن يكون حِكرًا على رجال المال والاقتصاد فقط، فلا بُد من إشراك عقول أخرى على أساس أنها مسؤولية جماعية ووطنية. ومن هنا، نطرح مجموعة تساؤلات تمس الاعتبارين: الاجتماعي، والسياسي.. أبرزها:
كيف تنظر الحكومة للسنوات الأربع المقبلة؟ وهل ستؤسِّس فيها نظاما ضريبيا متكاملا؟ وهل من خلالها سترفع الدعم الاجتماعي عن الكهرباء والماء؟ وهل ستكون لديها خارطة بانعكاسات الضرائب ورفع الدعم الجديد على المجتمع؟ وهل نظام الحماية الاجتماعي المتكامل الذي حدَّد ملامحه وزير الاقتصاد الوطني كافيا لضمان الانتقال السلس والأمن إلى عصر الضرائب في بلادنا؟
هذه التساؤلات معنية بها وزارة الاقتصاد الوطني ووزارة المالية، ولدينا تخوفات مرتفعة من مساراتها، وتخوفاتنا قد تجاوزت الاحتمالات بعدما أصبح الحديث عنها علانية من قبل خبراء وصحفيين، في ظل صمت الوزارتين، فبدا المشهد وكأنهم مفوضون بالتصريح أو التسريب، وبالتفاصيل المسهبة الى درجة أننا قد أصبحنا نتخيل صدورها بين ليلة وضحاها.
وهذا يعني أننا أمام مفهوم جديد لدولتنا، وهو الدولة الجبائية "ضرائب ورسوم" وفي هذه الحالة، فإن هناك تساؤلات اجتماعية ستطرح في حينها؛ مثل: ماذا عن مخزونات النفط والغاز ذات الاكتشافات الضخمة والمتزايدة، وبداية إنتاج الجديد منها واعدة، هل سيتم تحييدها عن التنمية؟ والتساؤل عن النفط والغاز في مستقبل التنمية في بلادنا، تكمن مشروعية طرحه في ضوء ما نشهده من مساع حثيثة للحكومة نحو الضرائب ورفع الدعم، وهى التي تُعطينا ذلك التصوُّر الافتراضي للمجتمع، وقد تعزَّز في الأذهان منذ أربعة أيام بسبب الحديث عن الضرائب خلال الأربع سنوات المقبلة، للأسف ليس هناك تفكير هذه الأيام من النخب والخبراء سواء الذين ينتمون للحكومة أو المستقلين؛ سوى جر مجتمعنا إلى الرعب من الضرائب بوعي أو انسياقا مع المرحلة، إلى درجة أننا نرى في بعضها فخًّا مقصودا بذاته.. مَن وراءه؟
حتى بعض أعضاء مجلس الشورى -الذين تواصلنا معهم- جل همهم الآن تقديم مرئيات ضريبية كمبادرات من جانبهم؛ اعتقادا منهم بالتخفيف على المواطن، وإشراك الأغنياء في تحمُّل الأعباء الضريبية بصورة عادلة، فبعد إقرار ضريبة القيمة المضافة، وقبلها الضريبة الانتقائية، يأتي حديثهم الآن عن ضرائب أخرى؛ مثل: ضريبة الدخل، وضريبة التحويلات المالية..إلخ. فهل يعتقدون أن هذه الضرائب -مثلا- يمكن أن تغني أو تصرف نظر الحكومة عن ضريبة القيمة المضافة؟ هذا وهمٌ، وإذا لم يكن كذلك، فهذا أيضا أسوأ من الوهم؛ لأنهم يقودون تأسيس اقتصاد الضرائب، وهذا سيكون خروجا على الاقتصاد الإنتاجي، وتحييدا لقطاعي النفط والغاز عن التنمية ولو بأي نسبة مئوية.
وهنا.. نقول بصوت مرتفع: إنَّ عصر الضرائب بالأفكار والتصورات التي تروج وتسوق لفترة أربع سنوات مقبلة، لن يصلح لبلد كبلدنا من كل الاعتبارات، ولا ينبغي أن يُطرح أصلا بتلك الكيفيات، لأننا إذا ما طرحنا التساؤل التالي: لماذا تلجأ الدول إلى الضرائب كمصادر للدخل؟ فالإجابة ستكون واضحة، وهى أنها تفتقر لثروات باطنية ولقطاعات إنتاجية؛ لذلك تلجأ إلى جباية الأموال من المواطنين، فهل مثل هذه الحيثيات تنطبق على بلادنا؟ الإجابة معلومة بذاتها!!
لذلك؛ كيف يأتي الحديث الآن عن منظومة الضرائب كمصادر الدخل؟ وكيف يأتي التفكير في رفع الدعم الحكومي عن المجتمع بحجة إعادة تصويبه مجددا ومن ثم صرفه على مستحقيه لاحقا؟ الحديث عن مثل هذه القضايا في هذا الوقت الحساس خطير جدا، والاقتراب منه أخطر، لأنه يرفع الخوف في السيكولوجيات الاجتماعية، ويعمِّق من تهيئته، في وقت يفترض فيه التهدئة والاعتدال داخل المنطقة الاجتماعية الحساسة بذاتها، فكل ما يحدث من خطى متسارعة تجاه منظومة الضرائب ورفع الدعم لا يمكن أن تندرج في خانة الإصلاحات، وإنما التحولات غير المحسوبة للانعكاسات الاجتماعية، وإذا شئنا القول إنَّها بمثابة ثورة على المكتسبات، وإصلاح الاختلالات يأتي بالتدرج حتى مع وجود الأزمة.
ولا يُمكن اعتبار ما يجري داخل السنوات الأربع المقبلة على أنه معالجات مؤقتة لمواجهة الأزمة المالية، بل العكس هي تؤسِّس للمرحلة التالية، وستصطبغ بها المسيرة، فكل ما يُؤسس في الأربع سنوات المقبلة من سياسات مالية واقتصادية، وعلى رأسها الضرائب ورفع الدعم وإحالة الآلاف إلى التقاعد -القائمة- فهى لا تحمل في مضامينها الصفة المؤقتة العابرة، وإنما صفة الاستمرارية؛ فهل قانون ضريبة القيمة المضافة مؤقت؟ وهل قانون ضريبة الدخل سيكون مؤقتا أم سيكون بديلا عن ضريبة القيمة المضافة؟ وقد جزم أحد خبرائنا بهذه الضريبة مؤخرا، واعتبرها مطلبا اجتماعيا الآن، وذلك لمشاركة الأغنياء الفقراء، وهنا تبدو لنا العدالة غريبة، عدالة الفقراء في تمويل خزينة الدولة من خلال ضريبة القيمة المضافة، وعدالة الأغنياء والمقتدرين من خلال ضريبة الدخل، وهذه الفئة قد تُسهم في كلا الضريبتين، فكيف سنشجع الاستثمار في بلادنا في عصر الضرائب؟
وهنا منطقة وعي.. سببُها الإغراق في التفكير الضريبي؛ فضريبة الدخل سيتحملها الأغنياء والمقتدرون، لكنهم في المقابل سيعملون على تحميل تبعاتها المواطنين، وسنجد المواطنين أصحاب الدخول البسيطة والمحدودة هم ضحايا الضرائب، ولن يحسن من مستوياتهم نظام شرائح الكهرباء والماء، ولا نظام الحماية الاجتماعية الذي حدَّد ملامحه وزير الاقتصاد الوطني، وذكر من بينها: الضمان الاجتماعي والتقاعد.. وهذه أنظمة موجودة أصلا، فما الجديد فيها؟ هل سيكون نظام الشرائح الاستهلاكية للكهرباء والماء؟ نخشى أننا نؤسس لنظام الطبقات الاجتماعية بصورة غير مُتوازنة، وقد يضرب التنمية والاستقرار في عصر الضرائب نظام الطبقات بالمفهومين الاشتراكي والرأسمالي؛ إذا ما تأمَّلنا في مجموعة السياسات التي اتخذت منذ يناير عام 2020 والسنوات المقبلة.
كُلنا مع الاستدامة المالية للبلاد، ومع وخفض الدين العام ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي بتوجيهه نحو الأولويات الوطنية وزيادة الدخل الحكومي من القطاعات غير النفطية، وتعزيز الاحتياطيات المالية للدولة وتحسين العائد على استثمار الأصول الحكومية، لكن كيف سيتم تحقيقها؟
إذا كان من منظور تأسيس عصر الجبايات "الضرائب والرسوم"، فإن هذا سيضع الدولة عامة والمجتمع خاصة في مفترق الطرق المتعارف عليه، أما إذا كانت فترة الأربع سنوات ستوازن بين الحاجة الظرفية لمتطلبات التوزان بين النفقات والإيرادات من منظوري السياسات المالية والاقتصادية التي اتُّخذت منذ يناير عام 2020 وحتى الآن، وبين العوائد الجديدة التي ستدخل لخزينة الدولة لأول مرة، وستفتح مجالات الاستثمار في قطاعات إنتاجية مضمونة النجاح، لتوسيع قاعدة مصادر الدخل، فهذا هو النهج الحميد والمحمود لسنوات خطة التوازن المالي.
من هنا، ينبغي أن يكون هاجسنا الوطني أن تخرج بلادنا من هذه الخطة بمرحلة تأسيسية صلبة ننطلق منها في تنفيذ رؤية "عمان 2040"، وهذا سيكون في الوقت نفسه مشروطا بمعالجة انعكاسات تلكم السياسات، التي بدأت بعض آثارها تظهر في سفر البعض لدولة مجاورة هروبا من أحكام قضائية لامتناعهم عن استمرارية الوفاء بشيكاتهم بعد تقاعدهم الإجباري، وستتصاعد الآثار كذلك منذ نهاية يناير العام 2021 بعد استكمال تقاعد الآلاف من الموظفين؛ فمبادرة تعديل شروط سداد القروض والتمويلات للمتقاعدين، لم تكن مفيدة للكثير منهم عند تطبيقها.
ومما يستوجب الإشارة في ختام هذا المقال، أنَّ الأزمات تذهب وترجع، ولا يمكن أن نبني على أزمة منها، ونعيد تشييد كياناتنا الأساسية كردة فعل، وإنما ننتقل منها إلى صناعة الفعل، فمن خلال الأزمات، يمكن أن تفعل الحكومة ما لا يمكن فعله دون الأزمات، وهذا المنطق الذي ينبغي أن يسود؛ فالأزمات تنتج فرصا استثنائية، ونجاحاتها تكون في منطق الاستثنائية، وإذا حررنا فكرنا من نمطية التقليد والمتابعة، فمن خلالها -سنوات الأزمة الأربع- يمكن إحداث طفرة استثمارية كبيرة في قطاعات إنتاجية مهمة؛ فلماذا لا يتم التفكير فيها خلال سنوات الأزمة؟ ولماذا عِوَضا عن ذلك، يتركز التفكير في الضرائب ورفع الدعم عن الشرائح الاجتماعية؟ نتمنى قيادة مرحلة الأربع سنوات المقبلة بذكاء ومن هذه الرؤية المتوازنة.. وللحديث بقية في جزء ثانٍ من هذا المقال.