أمسية تستعيد ذاكرة مفقودة

وداد الإسطنبولي

بين ما مضى وما هو آت، أذكر أنني كنت بالمرحلة الابتدائية من الدراسة وهي مرحلة الزهور اليانعة، الفارعة كالشجرة الوارفة أوراقها، الزاهية بلونها الأخضر، لا تحمل ثقل الحياة ومتاعبها، لا شيء بقلب الطفولة سوى نثر الابتسامات وصياغة الكلمات البريئة بفن يخلو من دنس الواقع ووجهه القاتم، كاليرقة داخل شرنقتها تدفئ نفسها، فيحين موعد ولادتها لتكون فراشة تفرد جناحيها للطيران، تزهو بألوانها هنا وهناك، وهذا ما يبشر بولادة كاتبة بدأت تحبو لتواجه مخاضا مؤلما، يتفاقم ويتراخى ألمه لترتسم ملامح المولود وتشي بولادة كاتبة تصارع منذ المخاض لتعانق الحياة، أناملها الرقيقة بدأت تخط أولى الكلمات لترسم خلجان النفس والتهاب الفكر وميلان القلوب، سمفونية رائعة تلحن أنغامها بمعزوفة لا يعرفها سوى من جرب هذا الشعور.

كانت جالسة والصمت يلفها بالكامل كعباية لم تنسج بعد، وإذ برجع صدى الصوت يأتيها من الماضي البعيد يطرق سمعها بكل عنف: "عندما ألزمك بفرض بيتي يجب أن تقومي به بنفسك، لا تجعلي أحدا يقوم به عنك، ولو كتبت سطرا واحدا بأخطائه من إنشائك لكنت أسندت لك درجة".

معلمة اللغة العربية، لم تترك لي مجالا لأخبرها بأنني من كتبت هذا التعبير الإنشائي، وكنت أراقبها وهي تنتقل من طاولة الى طاولة توبخ هذا وتشكر ذاك.

على أنقاض رجع صدى صوت المعلمة قفز إلى ذاكرتي موقف آخر، موقف أخي عندما تكاسل عن كتابة تعبيره المدرسي، وطلب مني أن أنجز له واجبه التعبيري وبعد طول محاولات، وافقت على أن يشتري لي قالب حلوى شكولاتة. كانت الطفولة تزهو في عمري وتدغدغ بنيتي الصغيرة، أنجزت له ما أراد، وسهرت ليلتها على غير العادة لاستكمال دروسي.

عند الظهيرة وبعد عناء طويل صباحي، يركض الأطفال مهرولين مسرعين فرحين بانتهاء الوقت، يلملم كل طفل أغراضه بحقيبته ومنهم من يترك أغراضه المدرسية ملقاة على الأرض، همه الوحيد جر تلك الحقيبة إلى البيت ليزيح عن كاهله تعبَ يومٍ دراسي.

وبعد رجوعنا من المدرسة، كنت أشاهد مسلسلا كرتونيا مندمجة به لدرجة أنني لم أشعر بوقع قدومه وقال مستهزئا: "لقد مزق الأستاذ ورقة التعبير"؛ فالتفت إليه مستغربة متعجبة ممدودة الشفتين! "لقد قال لي بأن هذا ليس من إنشائك" وأخي هذا يكبرني بسنتين، لا يعطي للدراسة أي اهتمام، رسوبه أو نجاحه سواء، لا يشكل الأمر فارقا عنده وتحت رغبة والدي الملحة في التعليم وخوفه من نهره له كان يذهب إلى المدرسة متثاقلا متكاسلا، ولكني رفعت كتفي لعدم إحساسه بالمسؤولية فقلت له وأنا أشاهد أحداث مسلسلي الكرتوني:

- لا تشكر ولا تحمد، وما ذنبي أنا إذا لم يتقبل معلمك تعبيرك!

أدبر عني، وهو يغمغم بكلمات بعضها مفهوم وبعضها غير مفهوم، وهناك كلمات اخترقت مسمعي والتقطتها طبلة أذني: "لا أدري من أين نقلته، لتتفادي ما طلبته منك؟!".

تعثرت أفكاري لكلامه، وقوست حاجباي، أُحدث نفسي بتمتمات مسموعة: "هذه عبارة ليست جديدة على مسمعي، هذا ما أوحت به معلمتي بالفصل، وأمطرت عليَّ ذكريات كثيرة تعيد إليَّ شريطا من هذه المشاهد السيئة".

ما الذي كان يداعبه قلمي وهو يخط سطوره وأعين الصيصان الصغيرة زميلات الدراسة مبهورة بما أقوم به من صياغة مقدمة برنامج إذاعي أو صياغة موضوع إنشائي، في حين هناك من كان يسحبني إلى الخلف فأخشى المشاركة في فعل إبداعي خوفًا من أن أخفق.

كُنت حينها وبحكم سني وبراءتي ونقاء القلب الخالي من كل شائبة، وتلك الأحاسيس المرهفة الشفافة لا تتسلل إلى مخدعي النوايا المريبة لقلوب البالغين، لا أجيد ثقافة الإساءة، ولكن بالمقابل أتقن فن التجاهل، علامات البناء والترفع عن كل ما هو بذيء، كانت ترتسم في برعمي الصغير، وأقدامي الصغيرة بدأت تقوى وتشتد جذورها لتواجه الحياة وتخوض معتركها.

تواترت الأحداث وتوالت الأيام وإكليل الزهر أينع وأثمر، وافتقدت ما كنت أستنشقه من ولادة قلم.

عجلة الحياة كانت تدور وتدور بسرعة قصوى، قبل أن يحدث تغيير مفاجئ غير متوقع؛ حيث كنت أتصفَّح هاتفي يوما، وإذا من بين الرسائل أجد عنوانا عريضا شدَّني إليه، رسم على ثغري ابتسامة طفل وليد، كانت هناك أمسية لكتابة القصة القصيرة وإحياء القلم لكوكبة من الكتاب، تصفحت ذاكرتي وامتلأت حنينا لكل ما هو نائم وجاثم من سنيين، فهل هذه فرصة لشيء جميل سيحدث! وبالفعل قمت باتصال عفوي دون أن أفكر في شيء، أردت منه دفعا وتشجيعا للذهاب لهذه الأمسية فقلت في لهفة:

- عزيزتي، أعلم أني مقصرة في حقك وعدم السؤال عنك، ولكن مقاطعتها لي بترحيب عميق رفعت عني الحرج.

- أهلا، حياك الله، يسعدني سماع صوتك بماذا أخدم الحبايب؟

تبسَّمت من إطرائها وعذوبة حديثها، فقلت لها ببشاشة هناك أمسية ستقام في دار الكتاب وأريد منك مرافقتي فكان الجواب مرحبا، فقبولها لم يكن أمرا جديدا، فهي شخصية لها اهتمام بالأدب والورش التعليمية وكانت المصادفة أن أجدها دائما أمام ناظري كلما أردت أن أجد نفسي.

أتَّبع هذا الطريق الذي أحن إليه ولا يجد النور إليه سبيلا.

وحان الموعد، وجاء اليوم، وكان قلبي يخفق ويرتجف في الوقت نفسه ولا أدري لماذا؟ التفت حولي وأخذت نفسا عميقا ووجدت بعض الوجوه التي تأخذ طريقها بمسار واحد، فقلت ربما هنا مكان القاعة وتبعت خطوهم ونظرت أمامي فوجدت منصة مجهزة بالميكروفونات على سجادة حمراء، وإضاءة واضحة قوية، أشعرتني بالعنفوان وطاولات من هنا وهناك، فنظرت يمينا ويسارا لم أجد مدعوتي بعد، فأخذتني رجلاي إلى أقرب طاولة من تلك المنصة التي سيقوم المبدعون عليها بتقديم كتاباتهم.

كانت هناك غبطة جميلة تسربت إلي، وفرح عميق غمر كياني، نسيت كل من حولي إلا هذا الحلم الجميل وإن لم يكن لي موضع فيه، إلا أنه أحيا بي عالما مهجورا، ذكرني بفقر تلك الأوراق المركونة بخزائن الدواليب التي اندثرت وتوارت، أعادني إلى عالم الواقع فنظرت إليها للحظة لأستوعب أفكاري، إنها مدعوتي ابتسمت لها، جلست بجانبي واعتذرت لتأخيرها وبدأنا متابعة الأمسية.

لم ننتبه للوقت من جمال التشويق وإبداع الفن المتنوع، وما وقعته الأنامل من نقش وزخرفة إبداعية، حين تنبهت، هَمَمت بالوقوف وإذا بيدٍ تربت على كتفي.. قائلة:

- يا أهلا ومرحبا، سررت بوجودك ورؤيتك.

أسعدتني الحفاوة، وأقبلت أقبِّل إنسانة عظيمة، وإن لم تكن معلمة لي، ولكن كانت شرفا في مدرستي، وحدث حوار قصير جميل بيننا، أقنعتني فيه بأنها ما زالت تتذكر أنَّ لي باعًا في الكتابة، وحفَّزتني للمجيء لورشة تدريب تذهب إليها، ووعدتها بالمجيء.

نعم، هذه فرصة قد لا تأتي إلا مرة واحدة، هذه أمسية ساقها لي رب العباد وهذه بداية لمخاض الكتابة قد تورق بفعل تأثيرها الكلمات، قادتني إليها أمسية.

تعليق عبر الفيس بوك