د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري **
لطالما رددنا مقولة: الغرب ينهج سياسة المكيالين فيما يتعلَّق بحقوق الإنسان العربي، وليس صادقاً في إدعائه حماية حقوق الإنسان. قد يكون ذلك صحيحاً عند تعارض تلك الحقوق مع مصالحه، لكن المقولة تخفي سؤالاً نتجنب طرحه على أنفسنا: ألسنا نمارس السياسة ذاتها مع أنفسنا ومع الآخرين؟!
إذا كان الغرب يُمارس سياسة المكيالين فهو لا يُمارسها مع مواطنيه بل مع الآخرين، لكننا نمارسها مع مواطنينا ومع الآخرين، ولا نكتفي بالمكيالين، بل بمكاييل عدة، وبألوان مختلفة! وإلا فهل من تبرير لما تُعانيه المواطنة الخليجية من مُمارسات تمييزية، مجتمعية وحكومية؟!
مجتمعياً: تتعرض المُواطنة لممارسات تمييزية مجتمعية من يوم قدومها إلى هذه الدنيا: حين لا تجد ترحيباً مُماثلاً لأخيها الذكر، وفِي المعاملة الوظيفية حين يفضّل المواطن عليها، وفِي حرية الحركة المجتمعية حين تطالب بعدم الخروج إلا للضرورة، وفي حق السفر حيث تطالب بموافقة ولي أمرها وصحبة المحرم، الأنثى في العرف الديني مجموعة عورات عشر ينبغي المسارعة بتزويجها لأوَّل طارق ستراً لعورة، فإذا تزوجت هي عرضة لإهانات زوجها الذي يذكرها بأنها ناقصة عقل ودين، قد خلقت من ضلع أعوج، فإذا طلقت فنظرات الشك والارتياب لا ترحمها، وإذا تعرضت لمضايقات سفهائنا فهي الملومة لأنها لم تلتزم ببيتها، حتى إذا غادرت دنيانا فالقبر ستر لعوراتها التسعة الباقية طبقاً لحجة الإسلام الغزالي!
أما حكومياً: فلا أَجِد ظلماً تشريعياً أكبر من حرمان المواطنة من حق تجنيس أطفالها، في إخلال واضح بمبدأ المساواة. هذا المبدأ العظيم الذي أقرته الشرائع السماوية، واستقر بعد كفاح طويل في المواثيق الحقوقية الأممية ومنها (سيداو) وفي الضمير الإنساني وجميع الدساتير المعاصرة .
من هذه المنطلقات، فإنَّ تشريعات الجنسية الخليجية لا تخالف المواثيق الدولية والضمير الإنساني فحسب بل تناقض دساتيرها والشرائع السماوية أيضًا.
ماهي مبررات حرمان المواطنة حق التجنيس؟
أولاً: المبرر الديني: الأب هو صاحب الولاية، والأبناء إنما ينسبون إليه ويتبعون جنسيته لا جنسية الأم . لكن هذه مُغالطة، فأحكام النسب ثابتة بالشريعة أما الجنسية فرابطة سياسية وقانونية، ولا يوجد في الشريعة ما يمنع الأبناء من اختيار الأصلح لمُستقبلهم: جنسية الأب أو الأم .
ثانياً: المبرر القانوني: القانون يعتمد معيار الدم في التجنيس. حسناً لماذا تحرم الأم وهي لها دور مساوٍ للأب؟! لماذا لا يكون حقاً مشتركاً كمعظم تشريعات العالم؟
ثالثاً: المبرر الأمني: هناك من يتخوف على الأمن الخليجي، وهو تخوف لا محل له، لأنَّ من مقتضيات الأمن الخليجي تجنيس أبناء المواطنة الذين رضعوا الولاء والانتماء، إذ لا مصلحة أمنية في حرمان شريحة كبيرة من الشباب من التجنيس وتركهم عرضة لمشاعر الحرمان والتهميش والمرارة والنقمة على المجتمع والدولة .
رابعاً: المبرر الهوياتي: هناك من يخشى على الهوية الخليجية، وهو مُبرر واهٍ، لأن تجنيس أبناء المواطنة يعزز الهوية ويحصنها كونهم ولدوا في الخليج وتعلموا في مدارسه واكتسبوا ثقافته وتقاليده وعاداته ويحملون هويته، كما أن اعتبارات تصحيح الخلل السكاني تحتم تجنيسهم استعادة لتوازن مفقود بين أقلية مُواطنة وأكثرية وافدة .
الخلاصة.. أن كافة مبررات حرمان المواطنة من حق تجنيس أولادها غير مُقنعة . والقضية مرجعها رواسب ثقافية ونفسية ماضوية مُتحيزة، وعقليات ذكوريّة لا تُؤمن بمبدأ المساواة بين الجنسين، لم تفلح منابر الإعلام والتعليم والتثقيف في تغييرها.
إنَّ النظرة المجتمعية والحكومية لازالت أسيرة تلك العقلية الذكورية والثقافة المُتحاملة، وتشريعاتنا في النهاية ماهي إلا إفرازات تلك النفسيات والعقليات المشحونة .
وأخيراً.. ستحصل المواطنة على حقوقها كاملة، شئنا أم أبينا، وأن ننصفها بأيدينا خير من أن يفرض علينا، وإذا استطاعت حكوماتنا تجاهل مطالب الداخل فلا طاقة لها بمُقاومة ضغوط التزاماتها بالمواثيق الحقوقية الدولية، ولن تنفعها تحفظاتها المضحكة، تارة بحجة الخصوصية، وكأن الخصوصية غطاء لستر الممارسات التمييزية، وطوراً بالاحتماء بالهوية وكأن الهوية مُبرر لعدم المساواة، ومرة بالتمسح بالشريعة وكأن الشريعة تقر ظلم النصف الأفضل!
** كاتب قطري