لمحات من سيرة عبدالله الطائي

بقلم: الأستاذ/ أحمد الفلاحي

أحمد الفلاحي.jpg
 

الأستاذ الشاعر الكاتب المؤرِّخ عبدالله الطائي كان رائدًا بحق في مجالات الكتابة المختلفة، وقد أشاعَ اسم عُمان وردَّد ذكرها في أقطار الوطن العربي يوم كانت عُمان تعيش تحت أسوار العزلة والانغلاق في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ولا أعلم كاتبا عمانيا كان له هذا الدور الكبير في التعريف بوطنه وقتها مثل الأستاذ عبدالله الطائي.

والحديث عن هذا العلم وتقصي أدوار حياته ومنعطفاتها المفصلية يطول، لكنني هنا سأمرُّ على سيرته سريعا في تركيز مجمل واختصار غير مخل.

وقد حاولت واجتهدت أنْ ألامس بعض جوانب شخصيته المعطية والمؤثرة، وأرجو أن يكون في حديثي ما يضيف ويفيد.

ولد عبدالله الطائي في مدينة مسقط لأسرة كريمة اشتهرت بالعلم والفقه والأدب؛ فمنها قُضاة الشرع والشعراء والمشتغلون بالعربية وآدابها وتدريس الفقه والعلوم الأخرى، وقد انحدرت أسرته أول أمرها -كما قيل- من مدينة طيوي التي نسبت لها، ثم انتقلت لتستقر فترة في وادي الطايين ومنه إلى سمائل، وانطلق جزء منها إلى بوشر ومسقط وجزء آخر إلى نزوى، وكانت أسرة ثائرة للحق داعية للعدل، تأبى السكوت على الظلم والانحراف؛ لذلك تعرض بعض أفرادها للسجن والتضييق والنفي، وكان جده الأكبر الشيخ صالح بن عامر قاضيا وشاعرا، وكذلك والده محمد بن صالح وعمه عيسى بن صالح كانا قاضيين ويجيدان قول الشعر، وقد ولد الطائي سنة 1924م على ما رجحه كاتب سيرته الدكتور محسن الكندي، وإن كنت أرى في اعتماد هذا التاريخ مجالا للنظر والتساؤل؟

وقد تربَّى في الظلال الوارفة لأسرته الفاضلة المعروفة بالصلاح وبخدمتها للعلم، وتشرَّب بثقافتها الواسعة وفكرها المستنير، فشب منذ نعومة أظافره على حب المعرفة والرغبة في الاطلاع، إضافة للموهبة الذاتية التي فاضت بها نفسه في صباه الأول، وهي موهبة الكتابة وقول الشعر شأنه في ذلك شأن كثيرين من أقرانه، كان الشعر وقتها ثقافتهم المهيمنة وفضاؤهم الممتد؛ حيث تحلق أجنحتهم الصغيرة ابتغاء الوصول نحو أعاليه السامقة الرفيعة وسماواته البعيدة لحوقا بنجومه المضيئة التي يتنافسون على حفظ قصائدها، ويفخرون أمام شيوخهم وأهلهم بالاستشهاد بأبياتها ومقاطعها في مواضع الاستشهاد، ولسان حالهم يعبر عنه العلامة الشيخ عبدالله بن عامر العزري في وصف أيام تلمذته على شيخه الشاعر ابن شيخان؛ حيث يقول:

"لست أنسى لياليا كنت فيها...

أتلقى مواهب الأدباء

ولسان الأستاذ تلقي علينا...

ما حوى عن أثمة أذكياء

الخليل وسيبويه كذا الكسائي...

رفقاء الأستاذ ماض وجائي

وربيع ومسلم وضمام...

وسواهم من أبحر العلماء"

تلك كانت ثقافة عصرهم التي يتلقونها عن أساتذتهم ومشايخهم، مُطعَّمة بالإرشاد لكريم الأخلاق وحسن السلوك، ومستبطنة ما في خفاياهم من المواهب الشعرية والنثرية المستترة، لاستفزازها وإخراجها من مكامنها لتبرز وتتألق وتحظى بالصقل والتقويم من أولئك الأساتذة الحاذقين البصيرين الماهرين.

هَكَذا انطلقَ أديبنا في مبدأ نشأته تحت توجيه آبائه القديرين وتعليم أساتذته العارفين، يعدو في ميادين المعرفة محرزا السبق والتميز على زملائه ورفاق دراسته متفوقا عليهم، وكان من بين أبرز أستاذته وأشياخه اثنان ظل يثني عليهما ويشيد بهما طيلة حياته؛ وهما قريبه الشيخ أحمد بن سعيد الكندي الذي أرسلته الحكومة معهم في سفرتهم إلى العراق ليكون مسؤولا عنهم ومشرفا عليهم، والثاني هو العلامة الشيخ سالم بن حمود السيابي الذي كان يعمل في شابه قبل توليه القضاء أستاذا للعربية والنحو لأولاد الشيخ علي بن عبدالله الخليلي والي (بوشر) في وقتها ومن كان معهم هناك من الشباب، وكان عبدالله الطائي أحدهم، وقد سمعته بنفسي يقول إن أساس تكوينه المعرفي والأدبي على الأخص يعود الفضل الأكبر فيه لأستاذيه الجليلين هذين.

وفي سنواته الأولى، تفتحت مواهبه الثرية فوجد قلمه يتدفق منهمرا بروائع الشعر والنثر، وحين جاءته فرصة السفر إلى بغداد سنة 1935م كان -على الرغم من صغر سنة- في مستوى من التحصيل الجيد؛ لذلك كان شديد التفاعل مع جوه الجديد في بغداد الثلاثينيات، التي كانت تمور بقضايا الثقافة والفكر والجدل السياسي، وكانت في بداية انفتاحها على الحضارة العالمية القادمة لبلاد العرب؛ من خلال المعاهد الحديثة التي أنشئت فيها والأساتذة العرب الكبار الذين حلوا ساحتها، من أمثال ساطع الحصري والدكتور زكي مبارك وغيرهم من مثقفي فلسطين ومصر وسوريا ولبنان، ممن هضموا الثقافة العصرية وعرفوا الحضارة الجديدة وأتقنوا اللغات الأجنبية. وذلك الزخم المعرفي والاصطخاب السياسي عُمق من ثقافة الطائي وأدخله إلى المعارف الحديثة والقضايا العصرية؛ فولج بابها في توهج وسطوع ورغبة في نيل المزيد، وكان زاده المعرفي الذي جاء به من مسقط معينا له في مرحلته الجديدة.

وقد مضت عليه سبع سنوات خصبة في بغداد، يدرس في المدارس ويغشى المنتديات والملتقيات، ينهل من العلم ويستزيد من المعرفة، حتى أكمل دراسته الثانوية عام 1941م، وفي تلك الفترة أتيح له حضور الكثير من الفعاليات التي كانت تتدفق في بغداد من محاضرات أدبية وأمسيات شعرية وملتقيات سياسية وندوات ثقافية، وكان الفكر القومي العربي هو الأبرز الذي يهيمن على الساحة يومها، مطلقا صيحاته المدوية ومقدما رسالته المبشرة بأمة عربية واحدة ممتدة من المحيط الأطلسي وحتى اليمن، وكان ذلك من المؤثرات القوية في عقل عبدالله الطائي وفكره، مما أنتج تفاعله مع ذلك الحراك ودخوله في سجالات مع رموزه وأعلامه عبر مقالات ملتهبة، كان ينشرها في الصحافة مؤيدا أو معارضا أو في الوسط بين هذا الاتجاه أو ذاك، وقد ترسخ آنذاك فكره القومي العربي المؤمن بالعروبة مظلة جامعة لكل العرب من ضفاف المحيط الهندي في الشرق وحتى أقاصي المغرب في غير عنصرية أو غلو وتطرف، وظل خيط هذا المسار هو الناظم لفكر الطائي خلال سنوات عمره كله تعبر عن ذلك مقالاته العديدة وأشعاره المتوالية، ولكن العروبة عنده تكامل بين أوطان العرب وتعزيز لروابطها دون إلغاء أو إمحاء، فهو عربي الهوى من غير انسلاخ عن عُمان أو تجاوز لكيانها، وكذلك نظرته إلى بقية أقطار هذا الوطن العربي الكبير الذي هو عنده بمثابة بناء شامخ يستند إلى الأركان التي ترفعه وتقيم ركائزه، وتلك الأركان هي الأقطار العربية المتعددة من المغرب ومن المشرق.

وقد عادَ الطائي إلى مسقط بعد أنْ أكمل هو ورفاقه دراستهم في بغداد، وكان من بين رفاقه في تلك البعثة: السيد ثويني بن شهاب، والسيد فَهر بن تيمور، والأستاذ حفيظ الغساني، والأستاذ حسن الجمالي. وبعد عودته عُيِّن مدرسا في المدرسة السعيدية التي استمرَّ بها لمدة تزيد على الست سنوات، وهو يسجل عن تلك الفترة قائلا بالنص:

"كان عملي الوحيد الذي مارسته بهذه الحقبة من عمري هو التدريس في السعيدية، وكان فيه فوائد للنشأة والتهذيب وفهم الرجال ومطالعة الكتب". وقد أخلص الطائي لعمله التعليمي وتفانَى فيه، وبذل كل ما استطاعه للارتقاء به وتطويره؛ فهو يقوم بالإضافة إلى التدريس بالمشاركة في أنشطة المدرسة ويكتب التمثيليات البسيطة والأناشيد، ويتفاعل مع أساتذة المدرسة وطلابها وإدارتها في هِمَّة متجددة وعزيمة فوارة، ولكن يبدو أنَّ معوقات كثيرة واجهته في العمل لم يجد حلًّا لها، أدت به أخيرا للاستقالة والسفر إلى باكستان غداة استقلالها عن بريطانيا وانفصالها عن الهند عام 1947م، وشجَّعه للذهاب لباكستان أصدقاء له سبقوه إلى هناك منهم جواد الخابوري وأحمد الجمالي وغيرهما من العمانيين، إضافة لأستاذة عرب من الخليج وفلسطين واليمن، واستمرَّ هناك لما يزيد على السنتين مدرسا للعربية، ولكن إقامته كانت مضطربة متعبة، مما اضطره للعودة إلى مسقط، وقد أفادته سفرته الباكستانية في تعزيز لغته الإنجليزية وتقويتها، وتعلمه للغة الأوردو التي تمكن منها تمكنا أعانه على قراءة عباقرة أدبائها كمثل إقبال وطاغور، وأتاح له ترجمة شيء من إبداعاتهم إلى العربية كما روى بعض أصدقائه. وفور عودته من باكستان، توجَّه حالا إلى البحرين، ربما بدعوة من بعض زملاء دراسته السابقين في بغداد، ليكون مدرسا في مدرسة المحرق الابتدائية التي استقال منها بعد ما يقرب من العام الواحد، ورجع إلى مسقط ليعمل مترجما في القنصلية البريطانية استجابة فيما يبدو لظروف عائلية، ثم استقال وعاد إلى البحرين ثانية في مطلع العام 1952م مُلتحقا بنفس مدرسته التي تركها قبل نحو عام، وقد أخذ معه هذه المرة زوجته لينعم باستقرار أسري؛ حيث طاب له المقام هناك، وفي البحرين وجد بيئة اجتماعية شجعته على النشاط والحركة والتفاعل مع الجو الأدبي والثقافي السائد هناك حينئذ، وتيسر له الارتباط بعلاقات وثيقة وصداقات متينة مع مجموعة من النخب البحرينية المؤثرة من الشعراء والأدباء والكتاب. ومع مهنة التدريس التي يمارسها شارك في المنتديات واللقاءات الفكرية والثقافية، وكتب في الصحافة وصار له حضوره اللافت، فهو يُلقي المحاضرات ويدير الندوات ويسهم في الحوارات ويدبج المقالات وتقام له الأمسيات، وعندما افتتحت إذاعة البحرين عام 1955م بادر للعمل بها لقاء مكافأة في الفترات المسائية؛ حيث كان يقدم أحاديث ثقافية وأدبية، وحين أصدرت تلك الإذاعة مجلتها "هنا البحرين" كان هو أحد محرريها، ثم رئيسا لتحريرها حين انتقل من التدريس نهائيا ليعمل في مجالات الإعلام، ولكن نشاطه المتعدد والدؤوب في مناخات البحرين ذلك الزمن كان لا بد له من أن ينقطع، وألفته الحميمة للمكان ولأهله لا بد أن تنتهي في ظل فورة الغليان السياسي الشديدة في منتصف عقد خمسينيات القرن العشرين، ذلك الغليان الملتهب الذي عصف بالكثيرين وكان الطائي أحد ضحاياه، فقد أرغم في ظل ذلك التيار العاصف على الخروج من البلد الذي أحبه وارتاح له، ليجد نفسه في الكويت منتصف عام 1957م.

وقد سجَّل عبدالرحمن الباكر زعيم الحركة الوطنية في البحرين آنذاك، في مذكراته "من البحرين إلى المنفى"، والصادرة عن دار مكتبة الحياة في بيروت عام 1965 إشادته وثناءه على عبدالله الطائي قائلاً: "أنا أثق به، وأعتمد عليه في كثير من الأمور الهامة وأعتبره مخلصاً"، وشهادة هذا الزعيم الوطني في حق عبدالله الطائي بأنه كان أحد مساعديه المخلصين الذين يأتمنهم على أموره المهمة، توضح بجلاء صدق وطنية الطائي ودوره الحيوي في ذلك الحراك الوطني المتأجج حينها في البحرين.

ويصور الطائي لحظات تركه البحرين حزينا منفعلا متجلدا مودعا أرضها وأهلها الأثيرين لديه:

"وداعا وإن كان الوداع تألما...

وصبرا وإن كان التصبر علقما

وداعا أوال العرب لا القلب مسعف...

ولا النفس ترضى لا ولا الخطو أقدما

ولكنه إرهاب من جاء قاطعا...

بحارا لتشريدي وهجرك حتما

ويا أيها الطيار سر مسرعا ففي...

فؤادي للبحرين ألف هوى نما

إذا ما تناءت معشرا ومنازلا...

ففي القلب ينبوع لعهد تصرما

وداعا بلاد الخير والمجد إنني...

نأيت على رغمي وفي كبدي ضما"

إنَّ المرءَ وهو يقرأ هذه القصيدة لكأنه يسمع نشيج صاحبها وتفجُّر عاطفته وتسارُع دقات قلبه وأنينه المؤلم، وهكذا بعد ما يقرب من تسع سنوات أرغم الاستعمار البريطاني -المتحكم وقتها- عبدالله الطائي على ترك البحرين، ليبدأ حياة جديدة في الكويت؛ حيث رحب به أصدقاؤه الذين كانوا زملاء دراسته بالعراق؛ ومن أبرزهم: الكاتب صالح جاسم شهاب، والشاعر أحمد السقاف. وفي الكويت، واصل الطائي نشاطه الثقافي والفكري في الإذاعة والصحافة والمنتديات، وتقلد بعد فترة رئاسة تحرير مجلة (الكويت) التي كانت تصدرها حكومة الكويت، إضافة لبرنامج إذاعي أسبوعي ثقافي أدبي كان يقدمه بصوته من إذاعة الكويت فيه الثقافة والأدب والتاريخ، وقد خصص حلقات من هذا البرنامج للحديث عن عُمان وتاريخها وأدبها وأعلامها، وقد تمَّ وقتها تضمين المنهج الدراسي الكويتي للصف الثاني عشر بعض حلقات من ذلك البرنامج. وبعد إنشاء رابطة الأدباء الكويتية كان أحد أعضائها الفاعلين، وفي كل ندوة ومحفل كان دائما يُلقي المحاضرات ويتحدث في مجالات الفكر والثقافة وأفرع المعرفة المختلفة، كما كانَ يُولي كبير عنايته للمواهب الشابة والأقلام المبتدئة ويفسح لها المجال للظهور والتكون. وفي الفترة من 1/1/1963م وحتى 18/6/1964م انتدبت حكومة الكويت الأستاذ الطائي ليشرف على سكرتارية مكتب الكويت في إمارة دبي، ذلك المكتب الذي كانت مهمته المساهمة في تنمية إمارات ساحل عُمان وإمارات جنوب اليمن في مجالات التعليم والصحة ونحو ذلك، وقد استمر ذلك الانتداب لمدة سنة ونصف؛ قدَّم خلالها ما استطاع تقديمه في إطار مهمته التي عاد بعدها إلى الكويت ليواصل عمله في إدارة الثقافة والنشر، ثمَّ تقلد بعد ذلك مهمات وظيفية أخرى إدارية وإعلامية وثقافية حتى مغادرته الكويت إلى أبو ظبي عام 1968م؛ أي بعد ما يزيد على ثماني سنوات أمضاها هناك، وكان قد أصبح له حضوره البارز واسمه الكبير الذائع على مستوى الساحة العربية كلها، ويومها رغب حاكم أبو ظبي الشيخ زايد بن سلطان في أن يستقدم عبدالله الطائي ليستعين به وعينه مستشارًا له، فغادر الكويت محمودا مقدرا من أناسها ومن حكومتها للأدوار التي قام بها وللخدمات التي أداها واضطلع بها فترة إقامته فيها، وهو بدوره كان لسانه يلهج بالشكر ويفيض بالثناء على الكويت وأهلها وحكومتها التي آوته وساعدته، وأفسحت له المجال ليعمل وينتج، وقد قال في حفل توديعه الذي أقامته رابطة أدباء الكويت وأعضاءها من أصدقائه المخلصين:

"وما هجرتكموا سعيا لمصلحة...

لكن نداء أتاني من حمى وطني

وما أنا للكويت اليوم ذو ملل...

وكم شدوت بها في السر والعلن"

وقد أسهَم الطائي أثناء وجوده في الكويت في حراك المعارضة العمانية القائمة في البلاد العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، خاصة الإمامية منها، وكان له دوره البارز معهم بالمشاركة والدعم المباشر وبالنصح وتقديم المشورة والقيام بأداء بعض المهمات لصالحهم.

وفي أبو ظبي، كان محل ثقة الحاكم الذي قدره وقربه، وجعله مستشارا، وأناط به الكثير من الأعباء والمناصب، ومن ناحيته هو كان على مستوى المسؤولية وبذل الجهد حد الاستطاعة في سبيل تطور الإمارة، وكانت في البدايات الأولى لنهضتها الحديثة التي كان هو أحد بناتها وركائزها، ومما يذكر له بين أنشطة عديدة متنوعة جهده في إنشاء إذاعة أبو ظبي، ثمَّ إنشاء تليفزيون أبو ظبي، ثم تأسيس جريدة "الاتحاد"، وأشياء عديدة أخرى تربوية وتعليمية وثقافية وسياسية.

وقد دامتْ مدة مكوثه في أبو ظبي ما يقرب من سنتين ونصف، واستقال من العمل بها أواخر عام 1970م عائدا إلى وطنه الذي غاب عنه ثلاثة وعشرين عاما، وكانت عودته تلبية لدعوة السلطان قابوس بعد توليه مقاليد الحكم، وفور وصوله مسقط والتقائه السلطان ورئيس الوزراء السيد طارق بن تيمور وقتها، أسندت إليه وزارة الإعلام ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالوكالة، وإليه يعود تنظيم الإذاعة العمانية وإعداد هياكلها وترتيب إدارتها مع تأسيس وزارة الإعلام وأقسامها ودوائرها.

وكان له الدور البارز الملوس في تلك الفترة، ومن أهم إنجازاته يومئذ نشيد "صوت النهضة"، الذي لا تزال أنغامه تصدح في الإذاعة والتليفزيون حتى اليوم، إضافة إلى برنامج يومي قدَّمه من الإذاعة كان يُذاع في أمسيات شهر رمضان المبارك عام 1971م وكنت شاهدا على تسجيله، إضافة لإرسال مجموعات الشباب للتدرب على ممارسة العمل الإذاعي في الكويت وغيرها، واستقدامه الإذاعي والإعلامي الكبير سالم الفهد من الكويت، وتعيينه مديرا لإذاعة مسقط خلفا للإذاعي الشهير أحمد المنصوري، الذي كان منتدبا من إذاعة "صوت الساحل" من الشارقة، عندما تم نقله مديرا لإذاعة صلالة بعد افتتاحها، ويمكن لنا أن نعد من إنجازاته في الإعلام العماني صحيفة "الوطن" التي أسسها شقيقه نصر الطائي، بدعم وتأييد مباشر منه، ومن الصعب إحصاء كل ما حققه خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا، التي كانت فيها عمان الحديثة تتأسس وتبدأ شق طريقها نحو حضارة العصر والتطور، وأذكر من ذلك محاضرته في نادي عمان بمسقط عن علاقات عمان العربية، وقد حضرتها مع عدد كبير غصَّ بهم النادي، وهي مُحاضرة مهمَّة جدا في زمن بدايات النهضة العمانية، ولا يفُوتنا كذلك دوره المؤثر في وفد الصداقة العُماني الذي جاب الأقطار العربية كلها برئاسة الشيخ سعود بن علي الخليلي وزير المعارف آنذاك، مع مجموعة من الشخصيات العمانية العائدة توًّا من مهاجرها، في جولة امتدت لما يقرب من شهرين ابتداءً من ديسمبر 1970م للتعريف بعُمان والتواصل مع الأشقاء العرب سعيًا للانضمام إلى جامعة الدول العربية، وبحكم خبراته الواسعة وصداقاته وروابطه القوية مع المسؤولين في الدول العربية تيسر للوفد إنجاز مهمته بصورة أسرع وأسهل.

ولم يتسنَّ للأستاذ الطائي الاستمرار في المنصب الوزاري طويلا؛ حيث خرج من الوزارة بعد إعادة تشكيل مجلس الوزراء عام 1972م ليُعيَّن مندوبا للسلطنة في الأمم المتحدة، لكنه اعتذر عن قبول التعيين، وعاد إلى أسرته التي كانت لا تزال مُقيمة في أبو ظبي متفرغا لإعداد كتبه وترتيبها، ولتلبية دعوة كان سبق أن تلقاها من القاهرة لإلقاء سلسلة محضرات عن أدب الخليج العربي في معهد البحوث التابع للجامعة العربية بالقاهرة كأستاذ زائر وقد أصدر المعهد تلك المحاضرات فيما بعد في كتاب ظهر مطبوعا تحت اسم "الأدب المعاصر في الخليج العربي"، طبعته جامعة الدول العربية تكريمًا له بُعيد رحيله بوقت قصير، وفي غمرة اشتغالاته الفكرية والثقافية داهمه الموت فجأة وهو في بداية الخمسينيات من أعوام عمره لم يكد ينهي مرحلة الشاب وكان لحظتها في قمة نشاطه وعطائه، لتذهب روحه الطامحة المتجددة محلقة في الأعالي نحو بارئها الكريم الرحيم في 18 يوليو 1973م.

وقد ترك الطائي وراءه الذكر الحسن والثناء الجميل، كما ترك مؤلفاته العديدة التي صدرت بعد وفاته ولم يسعفه الفراغ في حياته الممتلئة سوى بطباعة كتابين فقط من كتبه؛ هما ديوانه الشعري "الفجر الزاحف" وروايته "ملائكة الجبل الأخضر"، وقد قام أبناؤه الأوفياء بإصدار كتبه الأخرى متوالية ليتسنى لقراء العربية الإطلاع على فكره وإنتاجه الزاخر المتعدد الأشكال والمضامين، ومعظم إنتاج الطائي الأدبي يحمل الهم الوطني وحب عمان والتغني بأمجادها والدعوة لتطورها وبنائها أرضا وإنسانا، إضافة للبُعد القومي وأحوال الوطن العربي في إنجازاته وانحساراته وثوراته وطموحاته.

وقد مرَّت بالطائي كثيرٌ من الصعوبات والمواقف المتعبة أثناء وجوده في الغربة، سجَّل جوانب منها في كتاباته السردية وفي قصائده؛ لعل أبرزها: وفاة والدته، وكذلك وفاة قريبه الشيخ أحمد بن سعيد الكندي وهو بعيد عنهما، وقد رثاهما بقصيدتين مؤثرتين هما من روائع ورفيع شعره، ومن ذلك أيضا قصيدته النونية المعبرة عن مشاعره الفياضة المتوهجة حين وصوله إلى الوطن، ورؤية معالم عُمان التي غابت عن عينيه لثلاث وعشرين سنة، وإن ظلت في ذاكرته، وفيها إشارات لما واجهه من صعوبات خلال تلك الفترة، وهي أيضا من قصائده الحميمة تجاه وطنه وفيها صور ناطقة وحِكَم بالغة.

تلك هي وقفات سريعة عابرة مع سيرة علم من كبار أعلام عُمان المعاصرين، لا يمكن لها بالتأكيد أن تفي بسجل حياته الواسع وبكل ما في تلك الحياة الخصبة الثرية من عطاء كبير وإنجازات ضخمة رائدة متميزة؛ فهو الشاعر والروائي والقاص وكاتب المقالة والناقد الفاحص، وهو الإذاعي والإعلامي والصحفي، وهو السياسي المحنك المقتدر، وهو المؤرخ الحصيف المتتبع والباحث المدقق، وهو الإداري الناجح، وهو قبل ذلك المربي والمعلم الذي نشأت أجيال تدين له بالأستاذية في كل بلاد الخليج، ابتداء من عمان وساحلها "الإمارات"، مُرورا بإمارات الخليج الأخرى وانتهاء بالكويت ولا بد لي في هذه الأسطر من التوجُّه بالنداء إلى وسائل الإعلام لإبراز هذه الشخصية والاحتفاء بها وبعطائها الأدبي والفكري، والنداء كذلك نوجِّهه إلى وزارة التربية والتعليم لانتقاء نصوص من إبداعاته تضم لمناهجها الدراسية ليتعرف الناشئة عليه وعلى أدبه وسيرته الغنية، وكذلك إطلاق اسمه على إحدى المدارس الكبيرة في مدينة مسقط التي كان فيها مسقط رأسه ومكان نشأته ومرتع صباه، كما ننتظر من جامعتنا (جامعة السلطان قابوس) وجامعاتنا الأخرى العامة والخاصة أن لا يغيب عن مناهجها وعن طلابها وأساتذتها أديب شهير وعلم بهذه الأهمية، وأيضا نظنُّ أنه ليس من الكثير أن يُسمَّى أحد الشوارع وإحدى الساحات وإحدى الحدائق العامة باسم هذا الكاتب الكبير؛ سواء في مسقط أو في المحافظات والمدن العمانية الأخرى؛ فذلك حقٌّ لأعلامنا البارزين علينا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة