د. مجدي العفيفي
تفتقر المرأة العُمانية إلى دراسات عنها وكتب مُستقلة تتناولها وتتجادل معها وتتحاور وتتفاعل، أرى ظلما نسبيا وقع عليها من أصحاب الأقلام ورجالات الفكر وأرباب القلم، إذ لم يخصصوا مؤلفات ودراسات مستقلة بها، إنما كل ماجاء عنها فصول أو بعض فصول وإشارات في كتب موسمية ومطبوعات مناسباتية ونشرات احتفالية، كل ذلك محمود إلا قليلا!
أما أن ترى كتاباً يحلل تحولاتها، ويُوثق مشاهدها، ويحقق عطاءاتها، ويدقق شواهدها، ويحلق في أجوائها، ويسرد خطابها الصادر منها والصادر عنها، فهذا يستحق القراءة الكاشفة ويستدعي عرض صفحاته للضوء المعرفي والنور النقدي، لاستقطار قنينة فكر من عالم المرأة فيحفر في طبقاتها، ويغوص في بحورها، ويفتت كتلها السردية، سعياً بالحق وصولا إلى حقيقة المرأة العمانية زماناً ومكاناً وإنساناً.
وقد أدركت هذا الفقر الفكري، زهرة عُمانية لم تعبأ بأن تكون شهادتها مجروحة، ولم تشغل نفسها بأنها قد تبدو منحازة، ولم تبالِ بأن يُقال عنها إنها متعصبة لبنت بلدها، بل لبنات جنسها باعتبار أن أطروحتها تتجاوز الإطار القطري الضيق إلى آفاق تاء التأنيث في العالم.
خبراتها الإعلامية، واسعة، تجاربها الحياتية، عميقة يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، رؤيتها للعالم والإنسان ذات منظور إعلامي بالمعنى الكبير للإعلام، هي الإعلامية القديرة الأستاذة منى بنت محفوظ المنذزية، ابنة عُمان النهضة الشاهدة على جمالياتها وتحولاتها، والمشاركة في بعدها الإعلامي صوتاً وصورة.
رحلة عطاء كثيرة المحطات، وفيرة الحصاد، يانعة الثمار، منذ أن كانت أول صوت عُماني يقول للعالم عبر الأثير الإذاعي عام 1970: «هنا مسقط» وبجوار صوتها الإذاعي وصورتها التليفزيونية، قدمت مؤخرا كلمتها المكتوبة، إذ وضعت على رفوف المكتبة العربية كتابها الذي اتخذ عنوان «المرأة العمانية، مصباح لا ينطفئ» وهو عنوان يفكر كثيرا لنص الكتاب ذي الفصول الستة بعد مقدمة: الدور والنور.
يتجلى الفصل الأول تحت عنوان المرأة سؤال النهضة المستمر، وهو سؤال كبير، يُثير أكثر من علامة استفهام، وتجيء إجابته في رصد التحولات النوعية التي شهدتها المرأة العمانية ولا تزال وستظل، وهي تَهُـم كل حين بإقلاع جديد نحو المستقبل. ويفرد الفصل الثاني صفحاته للحديث عن المرأة العُمانية السياسية، ودورها الذي سجلته كأول امرأة في منطقة الخليج تمارس حقوقها السياسية تصويتا وتمثيلاً في الانتخابات البرلمانية، وتحقق وثبة غير مسبوقة بدخولها مجلس عُمان، بجناحيه مجلس الدولة ومجلس الشورى، وكيف استطاعت أن تجعل المجتمع يتقبلها قبولاً حسناً. ثم يُحدد الفصل الثالث ملامح الخطاب الإعلامي للمرأة، سواء أكانت هي التي تصيغ مكوناته بنفسها، أم كان الموجَّه إليها، عبر صورتها في وسائل الإعلام، وكيف استثمرت هي هذا الخطاب.
أما الفصل الرابع فيستقي مادته من خطاب المرأة الثقافي، انطلاقاً من أننا إذا أردنا تأكيد دعوة، أو نشر معتقد، أو تثبيت فكرة، فلن نجد مثل الثقافة وسيلة فعَّالة، من هنا كان الحرص على معرفة مفردات هذا الخطاب في الآداب والفنون وعالم الإبداع عامة، وكيف تعبر المرأة عن رؤاها للإنسان والعالم والحياة، من خلال فن الشعر وفن السرد والحكي. وتتواصل مع هذا الفصل صفحات الفصل الخامس وتتشابك معه كإبداع رقيق للأظافر الطويلة، حيث تتخذ مادتها من جماليات الفنون التشكيلية، وفنون التمثيل والدرما، ومهارة الأنامل النسائية في عالم الأزياء بخطوطها وألوانها وإبهارها ووقارها. ويبقى الفصل السادس والأخير، إذ يتمايز بأنه يتخذ مضمونه من عيون الكاميرا وهي تتحاور مع حركة المرأة وحراكها مع الأيام والتحولات، في مختلف المسارات والمجالات.
في هذا الشهر«أكتوبر» الذي يتجمل بأنه يتألق بمناسبة «يوم المرأة العمانية» يحلو فيه اقتطاف ثمرات نسائية من خلال هذه السردية التي تتخذ كليتها من عذوبة المرأة وعذاباتها، وأشواقها وأشواكها، وبساطتها ودهائها، وضعفها وقوتها، وجبروتها وانكسارها، وشجاعتها وخوفها، وهي الثنائية التي يمثل هذا المشهد المأثور في ثقافتنا العربية خصوصيتها، بل الإنسانية في عموميتها، إذ مرَّ رجل بمجموعة من النساء فأنشد فيهن:
إن النساء شياطين خلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
فإذا بواحدة منهن ترد عليه:
إن النساء رياحين خلقن لكم
وكلكم يشتهي شم الرياحين
ما الذي دفع منى محفوظ إلى هذا الكتاب؟
يوسع الخطاب العماني مساحة ملحوظة للمرأة العمانية، بكل شرائحها وأطيافها، على الرغم من أنَّه خطاب يتوجه للمجتمع بكليته عبر تحولاته النوعية وانعطافاته المرحلية، والذي يُراقب الوجود النسائي على الخريطة العمانية الاجتماعية تستوقفه أكثر من علامة تعجب وإعجاب أيضاً، داخل السياق الاستفهامي والمعرفي: لماذا هذه الخصوصية للمرأة في الخطاب السلطاني بشكل خاص، والخطاب العماني بمنظوره الكلي؟ وما هي الفواصل التي تشكل مُعطيات وعطاءات المرأة ؟ وما هي الرسالة التي يريد الخطاب توصيلها للمرأة باستمرارية إشاراته التي تتردد في ثناياه؟ وكيف تستقبل المرأة هذه الرسالة وماوراء سطورها، وإلى أيِّ أحد استوعبتها منذ بداية ترددها، وكيف تمكنت من ترجمتها على صعيد الواقع علمياً وعملياً؟
هكذا تتكاثر علامات الاستفهام بقدر ما تتباين الإجابات، مثلما تتوالى التحولات التي يفضي بعضها إلى بعض، وتتعاقب النقلات المفصلية التي تؤكد تصاعد المؤشر رأسيا وأفقيا، ليشكل منظومة نسائية متناغمة في مرايا متجاورة ومتحاورة مع كل أنساق النهضة العمانية التي تمضي في مسارات متشابكة، من أجل ذلك، أضع على رفوف المكتبة كتابي هذا، محلقة بجناحين، وأنا أهم بالتحليق في فضاء المنظومة النسائية العمانية.
هكذا تقول المؤلفة منى محفوظ في مقدمته التمهيدية «الدور والنور».
فأما جناحه الأول فهو كونها امرأة عُمانية كانت صورتها قبل شروق شمس عُمان الحديثة، كما تقول «باهتة إلى أدنى مستوى، بل لم يكن لها وجود متحقق أو كما ينبغي أن يكون، ويوم انبثق أول شعاع اتصلت في ضوئه بجذوري، وتواصلت مع رصيدي النسوي الضارب في عمق التاريخ والزمن ألوف السنين، ويعود إلى جدتي «الملكة شمساء» مرورا بشخصيات شهيرات في عالم السياسة والحكم والفكر والاقتصاد والإبداع والأدب والثقافة والفقه والتاريخ، وصولاً إلى مصابيح نسائية كثيرة في العصر الحديث».
هذا عن جناحها الأول فماذا عن الآخر؟
تقول المنذرية: إنه يتجلى في كوني «امرأة إعلامية» صاحبة أول صوت نسائي قال للعالم عبر الأثير عام 1971: «هنا مسقط» وقد كان هذا الأثير قبل النهضة الحديثة هو والعدم سواء. خضت كإعلامية تجارب صعبة، واخترقت حواجز منيعة، واقتحمت طريقًا غير مُعبَّد، وسلكت مراحل البداية من الصفر الإعلامي، حتى تحول هذا الصفر إلى مدينة إعلامية مُتكاملة نابضة بالحياة الجديدة وناهضة بمعالم فنية وتقنية تضاهي مثيلاتها، فأصبح لنا كيان إعلامي قادر على أن يخاطب العالم بكل السُبل والوسائل والأدوات.
وحتى تستقطب القارئ المتلقي لتجربة حياتها، تتذكر المنذرية تلك الأيام والليالي التي شكلت نقطة البداية فتقول «كنا نجرب ولا نيأس، كنا نجري في كل اتجاه، كنا نقضي الساعات الطوال داخل الأستديوهات الفقيرة إلى حد كبير، كانت روح العائلة تهيمن علينا كمجموعة من المُذيعين والفنيين والإداريين، لا فرق بين رجل وامرأة، كان مبدأ الرغبة أكبر من مبدأ الواقع، رغبات إعلامية لا سقف لها ولا جدران، طموحات لا تعرف إلا طلب المزيد، كنَّا نضع نصب أعيننا وأصواتنا وأبصارنا اسم عمان في تشكيلاتها الجديدة، وكان بداخلنا السؤال الأكبر كيف نساهم في توصيل الصوت العُماني إلى سمع العالم وبصره بموضوعية وبعيدا عن التهويل، وكنَّا نقهر الظروف ونعلو على ما يواجهنا من إحباطات اجتماعية، بقدر ما كنا نجاوز الموانع الجغرافية باستثمار التقينات الحديثة في البث الإعلامي، على قدر المستطاع، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فكانت عزائمنا ذات قواسم مشتركة.
وتواصل المذيعة الرائدة القول: «كنا نعمق في نفوسنا الطاقة السياسية والفكرية التي كان يبثها الخطاب السلطاني في بعده الإعلامي، فكنا نلتقط إشاراتها بكل وضوح، ونرددها في دواخلنا، ونتنفسها كالهواء، ونحن نتحدث ونفكر ونخطط ونعمل ونفعل، كنا متوحدين، والكل في واحد، والواحد هو، اسم عمان. كان الخطاب الإعلامي الذي نستظل بوحداته، يوقظ فينا جذوة تستعر لإثبات الذات، ويطلق فينا آمالا كبارا لا حدود لها ولا قيود. كان بكل ذبذباته يتردد بقوة على موجات طموحاتنا الذاتية والموضوعية، ويبث فينا روحاً جديدة، وثَّابة وجريئة، ترسل فينا قوة تضخ دماء متدفقة في شراييننا وخلايانا الإعلامية. كان الخطاب بمثابة المصباح المتوهج الذي يتدلى في فضائنا الإعلامي، فيقهر الظلام، كان نوره بقدر ما كان يُنير لنا مساحة واسعة في الطريق، فإنه يكشف أن الطريق سيكون طويلا، ولابد أن نزيح الظلام الذي ظل جاثماً بكثافة على صدر المجتمع ردحاً طويلا من الزمن القاسي قبل الثالث والعشرين من يوليو عام 1970 حتى إذا تنفس صبح نهضتنا الحديثة، انطلقنا وانطلقت قدراتنا الإعلامية، وتفجرت طاقاتنا، وتنزلت روح جديدة علينا جميعا، وصار الذي كان بالأمس، مستحيلا، فإذا به اليوم، ممكن التحقق، فقد كنا نرى أنفسنا كإعلاميين مع الغد أكثر عدوا، في سباق لن نتعب من الركض فيه، وأكثر استباقا للأحداث.
خواطر شتى بداخلها، تدعو بعضها بعضا لتنساب في قنوات اللحظة الراهنة، صور كثيرة متجاورة تتراءى أمامها، وهي تستعيد وتسترجع وتستدعي وتستبق أيضا، تبدو كشرائح فيلم لا تريد شاشته أن تنطفيء حيت يتداخل الزمن الماضي بالحاضر والمستقبل، محطات عديدة متواصلة، تنتظمها رحلة العطاء الإعلامي العماني الذي صاحب عملية التغيير النوعي بتوسيع دوائر الوعي المجتمعي، نسيج إعلامي متينة خيوطه، مرسومة خطوطه، يحمل خاصية قبول التشكيل والصياغة التي تسفر عنها متغيرات العصر الإعلامية مع الاحتفاظ بثوابت المجتمع والدولة، في تعادلية تخدم الأهداف الكبرى لمشروع النهضة.
بهذين الجناحين يتواصل التحليق في فضاء منى محفوظ المنذرية وهي تشعل مصباحها الذي لا ينطفئ ولا ينبغي له.