القيادة (4)

مؤسسة صُناع القادة

 

قد ينجَح المرءُ في بناء ذاته وبناء وانتقاء من حوله، إلا أنَّ سَيرورة ودَيمومة القيادة تبقى مبتورة إذا لم يُتوِّجها صاحبها بعنصر أساسي يستطيع القائد الفذ من خلاله أن يحافظ على ما بناه، وتستمر المؤسسة (المجتمعية أو العملية أو العلمية أو..) ومن فيها في المسار القيادي المرسوم بما يخدم المعطيات الآنية والمستقبلية.

تُوفِّي الرسول الأعظم -سلام الله وصلاته عليه- منذ أكثر من 1400 سنة، إلا أن السيرة القيادية له -عليه السلام- ما زالت تُدرس وتُمارس حتى يومنا هذا، وهكذا حال الرسل؛ أمثال: موسى وعيسى -عليهما السلام- الفكر الطاوي والكونفوشيوسي والبوذي والسنسكريتي والمندائي والزرادشتي، استطاعت جميعها أن تنجو ويبقى لها أتباعها وحاملوها رغم مرور مئات بل آلاف السنين.

السرُّ الأهم في هذا البقاء والتأثير هو المنهج (الكتاب)، هكذا يضمن القائد أن بناءه قابل للاستمرار، وأن من بعده قادرون على إكمال البناء وتثبيته وتحسينه؛ من خلال النواميس المثبتة بمنهج قيادي واضح شامل لمختلف جوانب حياتهم، يُخاطب من خلاله أرواحهم وعقولهم وأجسادهم، حتى لا يطغى مكوِّن على آخر فيختل التوازن البنائي الفردي فيتبعه الخلل في البناء المجتمعي.

لابد أنْ يكون للمنهج الذي يخطُّه القائد لأتباعه أساسيات وقواعد وأطر يستند إليها في بناء منهجه حتى يكون منهجا قابلا للتطبيق والبقاء، وبالرغم من أن المنهج لا يُشترط أن يكون مخطوطا في رق أو قرطاس، إلا أنَّ الكتابة والرسم هي أجود أنواع التثبيت والتوثيق، لا سيما وأن المنهج المنقول مُشافهة وممارسة أكثر عرضة للتحريف والتصريف؛ فعلى سبيل المثال: هناك العديد من الإشارات إلى أن الشعوب الأمريكية القديمة الذين استوطنوا القارتين كالهنود الحمر وشعب الأنكا وشعوب الأمازون قد كانت لهم العديد من الممارسات والسلوكيات والمعتقدات كمنهج حياة استطاعوا من خلاله بناء وقيادة حضارات ضاربة في القدم، إلا أن افتقارها للكتاب الممنهج، وتخليها عن إحدى أهم سمات المناهج القيادية في قابلية التطور والتحديث والتقليم، جعلها اليوم حضارات صغيرة جدا جدا، بل تكاد تكون منقرضة في بعض الحالات. وعلى النقيض تماما، فإن الحضارات التي قام مؤسسوها وقياديوها بتوثيق سلوكهم ومنهجهم، تمكنت من الصمود والبقاء حتى يومنا هذا.

إذن، ما هي الأساسيات التي يجب أن تراعيها كقائد حين تشرع في صياغة منهجك القيادي الخاص؟

يَجب أنْ تكون الغايات والأهداف لهذا المنهج واضحة ومرسومة بشكل لا يخالطه الشك والتأويل: ".. لتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور"، "وقال الله ليكن نور فكان نور" العهد القديم (التوراة)، "وما نور الشمس والقمر إلا فيض منه" الفيدا.. وهكذا، فإنَّ الكتب الخالدة جعلت غايتها من ذات التكوين لا بعيدة عنه، ليصبح المصدر هو الغاية والغاية هي المصدر.

كما يجب أن يكون للمنهج شرائع وقوانين تنظم العمل به والعمل فيه، فالمحتوى الذي سيتكون منه هذا المنهج هو محتوى تراكمي لمختلف الجوانب والتعاملات الحياتية الدينية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.

ويجب كذلك أن يكون هذا المنهج على درجة عالية من المرونة يستطيع من خلالها أتباعه أن يقيموا مسارهم ويقوموه مع مرور الأزمان واختلاف الأجيال، ولا يتأتَّى ذلك إلا من خلال إعطائهم الإطارات العامة الشاملة المهمَّة، وترك فُسحة من الإبداع والتطوير للأتباع أنفسهم؛ فمن لا يتقدَّم يتقادم. وهذه المبدأ يندرج تحته الطرق والأساليب المتبعة في تكوين وتطبيق المنهج.

يطرَح المنهجُ أهم الوسائل والأبجديات المتبعة لتحقيق هذا المنهج وتطبيقه؛ فالقائد كما ذكرنا سلفا إنما يبني قادة، لذا لا بد من وضع آليات الصنع والاختيار والتكوين واضحة مدونة ليتمكن من يطبق هذا المنهج من تحقيق الغاية الأولى التي وجد من أجلها.

ورغم أن الكتب السماوية هي أكمل المناهج وأكثرها بقاءً وصمودا، إلا أنها مكنت القادة الكبار في رسم منهجهم ووضع نواميسهم المبنية على ذات التكوين والتأطير السماوي فمن الكمال يخلق الكمال، وهكذا يكون ديدن القائد الواعي في استعانته بكل ما يمكن الوصول إليه، والاستفادة منه من الخبرات والعلوم التراكمية من مختلف الحضارات والكتب والمسالك، غير مُترفِّع عن اكتساب المعارف وتوظيفها في بناء منهجه ليكون في أجود ما يمكن صنعه وتكوينه.

على القائد أن يبين لمن بعده ويربيهم على أن منهجه والمسار الذي اختاره هو مسار غير جامد ومنهج حي لا ميت، لذا عليهم متابعة صقله وتحديثه في الإطار الذي تم تصميمه عليه، وإلا فإن الخروج بإطار بديل واختيار غير السبيل هو بناء جديد لمنهج جديد قابل للظهور والبقاء ما دام تكوينه قائما على العُرف البنائي للكتب والمناهج الباقية حتى يومنا هذا.

وهكذا.. كانت الخلافة منهجًا قابلًا للتطور والتأقلم في كل مكان وزمان، فالقيادة الحقيقية لا تحدها الزمكانية وإنما تحثها لتتعاطى معها وفق الظروف والمعطيات، بل إن العديد من القادة وجدوا أنفسهم مرغمين على المبادرة خارج العادات والتقاليد ليبدع بوسائل أكثر مرونة ومسالك أكثر تأثيرا، ولا شك أنَّ الجيل الحالي والقادم يحتاج قيادات من الصنف المحمدي العيسوي الإبراهيمي.. التي جاءت بشكل حديث مُتوائم مع الظروف لينقل تلك الأجيال إلى مستوى أرفع، وسعة معرفية أرحب. ولا يعني التقهقر والبقاء في الظل لفترة من الزمن أن العيب والإشكال في المنهج المعتمد، وإنما الإشكال في بعض الأحيان قد يكون في فهم هذا المنهج وتطبيقه بما يتناسب مع المعطيات والمتغيرات؛ فعلى الأتباع أن يستغلوا الحداثة لبلوغ الريادة بذات المنهج لا للتخلي عنه واتباع غيره، بالأخص إذا كان هذا المنهج هو منهج كمالي سماوي لم يُبن ليبلَى وإنما ليبقى.. "ن، والقلم وما يسطرون".

تعليق عبر الفيس بوك