قطاعات التنويع.. اللوجستيات تحت المجهر

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تزامنًا مع زيارات قائد البلاد المُفدى- حفظه الله وسدد على طريق الخير خطاه- لصحار الخير وظفار الأصالة ودقم المُستقبل ومسندم الجمال، وإيماناً بأننا على أبواب نهضة جديدة، نؤكد أنَّ ال أمر يستوجب تنظيم الصفوف والعمل على إيجاد سبل لإعادة توجيه الطاقات البشرية والطبيعية والبنية الاساسية في القطاعات المختلفة لضبط بوصلة المسار نحو تحقيق رؤيتنا رؤية "عمان 2040"، والذي يبدأ الآن.

سأتناول في هذا المقال قطاع الخدمات اللوجستية وخاصة المناطق الاقتصادية والحرة والموانئ، بعين المحب الفاحصة بغرض تحسين الأداء وتسريع الخطى وبدء مرحلة جديدة من الإنجاز وتعزيز الثقة بالنفوس والتأكيد على أننا نستطيع المضي قدمًا وتسوية الأشرعة بالشكل الملائم للإبحار بالسفينة العمانية الأصيلة في بحر تتلاطم أمواجه وتشدد رياحة.

فعلى الرغم من الاهتمام الكبير بقطاع اللوجستيات واستحواذه على نصيب الأسد من الاهتمام والإنفاق الحكومي وتكوين أكثر من 12 شركة حكومية تابعة لجهاز الاستثمار (مجموعة أسياد) وتمتع السلطنة بموقعها الجغرافي الذي يلائم أن تكون مركزًا عالميا للتجارة الإقليمية والدولية، وجودة وشمولية البنية الأساسية، والموارد الطبيعية الغنية. إضافة إلى انضمام السلطنة إلى عدد من الاتفاقيات الثنائية، والمنظمات الإقليمية والدولية مثل منظمة التجارة العالمية، واتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، واتفاقيات منع الازدواج الضريبي وغيرها مع مختلف دول العالم. وفي الوقت نفسه، لا يزال أداء هذا القطاع متواضعاً والنجاحات محدودة ولا يتماشى مع الإمكانيات والفرص التي يتمتع بها. ويشير تباطؤ نمو هذا القطاع الى تأخرنا جميعًا (الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص وأفراد المجتمع) في فك شفرة هذا القطاع وتحفيز الجينات اللوجستية والتجارية الموجودة في هذه الأرض الطيبة والقاطنين عليها والذين عرفوا بأنهم أسياد البحار وبعمق سجلهم التاريخي كمركز للتجارة الدولية، وكنقطة التقاء بين أسواق الإنتاج وأسواق الاستهلاك. فقد قيل في عُمان قديما إنها دهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومغوثة اليمن.

وتشير الإحصاءات في هذا الصدد إلى أن مساهمة قطاع اللوجستيات في الناتج المحلي الإجمالي وتوفير فرص عمل وتحقيق مكاسب من توفير الخدمات اللوجستية عالمياً متواضعة، حيث بلغت مساهمته في الناتج المحلي في عام 2019م حوالي 5%. وبشكل عام تعاني السلطنة من تنافس غير محمود وتباين في المزايا بين المناطق الحرة والخاصة والمناطق الصناعية في جذب الاستثمار. وفي سياق مُماثل، هناك العديد من المزايا النسبية والفرص الاستثمارية غير المعروفة من قبل المستثمرين الدوليين في قطاع اللوجستيات والسبب أنَّ الفرص الاستثمارية في هذا القطاع وغيره من القطاعات والمناطق الصناعية والاقتصادية يتم الترويج لها في الغالب بصورة غير مكتملة وتعرض بشكل مُبهم. وبالنسبة لتركيبة التجارة الخارجية في السلطنة نجد أنها غير مثالية فبالنسبة للواردات هناك نسبة تركز كبيرة، حيث تعتمد السلطنة بدرجة كبيرة على الاستيراد من دولة الجوار التي توفر في بعض السنوات أكثر من 50% من إجمالي الواردات. كما أن هناك تركز في الصادرات السلعية في المواد الخام وليست المصنعة محلياً وذات القيمة المضافة، ويشكل النفط السلعة الرئيسية للصادرات. وعلى صعيد قطاع إعادة التصدير والذي يجب أن يحتل مكانة متزايدة الأهمية في اقتصاد السلطنة، وهناك الكثير من الآمال معقودة عليه في تحسين قدرات الاقتصاد الوطنـي واستغلال الموقع الجغرافي المتميز للسلطنة في القيام بدور حيوي في مجال توزيع السلع في المنطقة وخارجها. فقد شهد تراجعاً خلال السنوات الخمسة الأخيرة، حيث تراجعت قيمة السلع المُعاد تصديرها بنسبة 12.7% بالمتوسط خلال الفترة (2015-2019)، في حين سجلت كمية السلع المعاد تصديرها نمواً متواضعاً لم يتجاوز ما نسبته 2.0% المتوسط خلال ذات الفترة، الأمر الذي يشير إلى أنه لا يزال لم يصل للمستوى المطلوب في مساهمته في تدعيم الإستراتيجية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل، خاصة في ضوء الإمكانيات المتوفرة في الموانئ العُمانية، وما توفره الحكومة من تسهيلات لتشجيع نمو هذا القطاع. ويتفق الجميع على أن تحقيق الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي لايزال يستلزم المزيد من الجهود. فعلى الرغم من أنَّ نسبة التجارة الخارجية من الناتج المحلي الإجمالي تعد من بين أعلى النسب على نطاق العالم إلا أنَّ هذا المقياس للانفتاح يتأثر كثيراً بالصادرات النفطية والموقع الجغرافي المتميز والقريب من الأسواق الكبرى، حيث إنَّ حصة الصادرات العُمانية المنشأ (غير النفطية) في الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الخمس الأخيرة ظلت متواضعة لا تتجاوز 11.0% في المتوسط. وفي السياق العالمي، أتيحت لي الفرصة لزيارة منطقة جبل علي الحرة في دبي ومنطقة طنجة الحرة بالمغرب وإليكم المقارنة بينها وبين نشاط المناطق الحرة الأربع مجتمعة في السلطنة؛ بالنسبة للمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي في السلطنة 1.2% مقارنة مع 20.0% في المنطقة الحرة بجبل علي ونحو 11.0% في المنطقة الحرة بطنجة.  بالنسبة لحجم التجارة في السلطنة أقل من 1%، مقارنة بنحو 50.0% في جبل علي ونحو 25.0% من الصادرات في طنجة. بالنسبة للوظائف فقد بلغت في السلطنة 8500 منها 20% فقط للعُمانيين، مقارنة مع ما يزيد عن 13500 في جبل علي ونحو 95000 في طنجة. وبالنسبة لعدد الشركات في السلطنة بلغت نحو 100 شركة مقارنة بنحو 7000 شركة في جبل علي.

وبالنظر إلى المستقبل، فقد أفردت رؤية عمان 2040 مساحة واسعة لقطاعات التنويع الاقتصادي ومن بينها اللوجستيات للقيام بدور محوري في تسريع جهود التنويع الاقتصادي وتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية وتحقيق الاندماج العالمي. وذلك لتحقيق الأهداف الإنمائية للسلطنة في العقدين القادمين. ولا شك أنَّ هناك الكثير الذي يمكن أن يقوم به هذا القطاع في تنشيط الحركة الاقتصادية وتحفيز جميع القطاعات الإنتاجية والسلعية والخدمية، وإيجاد فرص العمل، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية وحشد المدخرات المحلية لإنشاء مشاريع ذات جدوى اقتصادية، وكذلك اجتذاب التكنولوجيا والمهارات الفنية والتقنيات الحديثة. وإنشاء روابط بين المشاريع الإنتاجية في المناطق الحرة ونظرائها في القطاعات الأخرى من الاقتصاد الوطني، كما أنها تفعل دور القطاع الخاص المحلي من خلال إنشاء المشروعات في المناطق الحرة أو توفير المواد الخام والمدخلات اللازمة لإنتاج المناطق الحرة وتحقيق هدف التنمية الإقليمية المتوازنة، والمساهمة في سلاسل القيمة العالمية الإنتاجية باستخدام الميزات التنافسية للسلطنة.

ولا شك أنَّ الأزمة الأخيرة لفيروس كورونا وتداعياته على انحسار الطلب العالمي يوفر فرصة للسلطنة لأخذ حصة من إعادة تمركز خطوط الإمداد وسلاسل التوريد والمخازن العالمية لتجد لها ملاذا آمناً في السلطنة وما تتمتع به من استقرار وموقع متميز ومكانة مرموقة بين الأمم. ولكن بطبيعة الحال هذا أمر لا يحدث تلقائياً ونحتاج أن نتواصل مع العالم والمستثمرين المحتملين ونعرض فرصنا الاستثمارية في قوالب مُتكاملة للمستثمرين وأن نمتلك فريقاً من القناصة القادرين على اجتذاب المستثمرين والتفاوض معهم وإقناعهم بأن عُمان الموقع الأنسب في العالم لاستثماراتهم.

إنَّ ترجمة الفرص والإمكانيات إلى واقع ملموس في قطاع اللوجستيات وغيره من قطاعات التنويع يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أمرين أساسيين: أولاً، زيادة الاهتمام بالجانب التسويقى المُنظم، لجذب الاستثمارات المرجوة لاسيما في ظل احتدام المنافسة القوية من قِبل الموانئ والمناطق الحرة الأخرى بالمنطقة والتي أُنشئت منذ فترة طويلة، الأمر الذي يستدعي استخدام طرق غير تقليدية للتسويق، واستغلال المعارض التجارية والتسويقية والمؤتمرات الاقتصادية المعروفة في بناء جسور تواصل مع الغرف التجارية والصناعية وتجمعات رجال الأعمال في الدول المصدرة للاستثمار. أما الأمر الثاني فهو إدارة المناطق الحرة بأسلوب يتفق مع المعايير العالمية المعمول بها في إدارة مثل هذه المناطق، ويشمل ذلك الهياكل التنظيمية، والكفاءة الفنية والمهنية في الكوادر العاملة بها، والعلاقات التنظيمية مع غيرها من المؤسسات ذات الصلة، كونها عملية مُعقدة تتشابك وتتداخل المتغيرات المؤثرة فيها، وتتميز بدرجة عالية من الديناميكية.

ولا شك أنَّ على جهاز الاستثمار العُماني والهيئة العامة للمناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الحرة العمل على إعادة تنظيم الإطار العام لهذا القطاع  الهام بشكل يضمن درجة أكبر من التنسيق بين شركاته ومكوناته لضمان وحدة الهدف والإدارة الفاعلة التي تستطيع أن تضع الضوابط المنظمة في العلاقة بين الموانئ الحالية والمناطق الحرة، وربط الاستثمارات مع الحاجات الفعلية، ودراسة المشروعات الإنتاجية فيهما بشكل يتكامل مع المشروعات الأخرى في بقية القطاعات الاقتصادية بالسلطنة، بالإضافة إلى تحديد المواصفات اللازمة في تسويق الفرص الاستثمارية محلياً وخارجياً، وضمان جودتها في ظل المنافسة العالمية والمتغيرات المختلفة، وفق مبدأ استثماري يعمل على استيفاء متطلبات التنمية الاقتصادية، وتعظيم الفوائد المرجوة من إنشاء هذه الموانئ والمناطق الحرة في خدمة الاقتصاد الوطني.

إنَّ نجاح قطاع اللوجستيات مسؤولية ومرهون بتعاون جميع الفاعلين في التنمية ويتطلب الأمر وجود قاطرات إنتاجية وتصديرية في مختلف القطاعات حتى يتمكن هذا القطاع من النمو والتطور. وهناك مسارات اقتصادية مهمة لنهوض هذا القطاع نذكر منها على سبيل المثال: جذب الاستثمارات الأجنبية التي تمتلك أسواقاً وشبكة علاقات دولية ووسائل التقنية الحديثة لفتح المجال أمام عقد صفقات تسويقية عالمية لتسويق المنتجات المحلية. وكذلك تنشيط دور القطاع الخاص لزيادة تنمية الصادرات العُمانية غير النفطية وإعادة التصدير والتي لها العديد من الإنعكاسات الإيجابية وتدعيم ميزان المدفوعات وتحقيق التوازن الخارجي وبناء احتياطات البلاد من العملات الأجنبية. وهناك أهمية لتفعيل التعاون الإقليمي والتغلب على العقبات التي تعترض المصدرين وتحد من قدرة صادراتهم على النفاذ إلى الأسواق العالمية، منها عقبات محلية مثل بطء إجراءات الحصول على شهادات المنشأ والتعاملات مع البنوك التجارية والموانئ والجمارك، بالإضافة إلى نقص المعلومات عن احتياجات الأسواق العالمية، وكذلك مشاكل التمويل والائتمان وضمان مخاطر التصدير خاصة لدى صغار المصدرين. ولا نغفل أيضاً ارتفاع تكاليف النقل والشحن والتأمين وعدم وجود خطوط نقل وطنية منتظمة للخارج سواء النقل البري أو البحري. أما بالنسبة للمعوقات الخارجية فتتعلق بالقيود الإدارية والتنظيمية في الدول المستوردة حيث نجد أنَّه لأغراض تحسين موازين مدفوعات تلك الدول يلجأ بعضها إلى أساليب الإغراق مما يجعل من منافستها أمراً صعباً في مجال التصدير وكذلك عدم ذكر ووضوح بنود معينة في الاتفاقيات التجارية المبرمة مع باقي الدول مما يشكل عائقاً أمام المصدرين. وأيا ما كان الأمر، فإنَّ نجاح القطاع اللوجستي يتطلب وجود تنسيق تام ومتبادل بين قطاع التجارة الخارجية والقطاعات الإنتاجية المختلفة وذلك من خلال وضع الواردات في خدمة الصادرات والصادرات في خدمـة التنمية الاقتصادية.

نعم هناك تحسن نسبي لبعض مؤشرات هذا القطاع بعد جائحة كورونا، وما نحتاجه تحقيق قفزات لن تتأتى بدون نسق جديد من التنمية قادر على قطف ثمار منجزات المراحل السابقة وربط عناصر القوة والمقومات والموارد والفرص معاً للانطلاق من المحلية إلى العالمية لاستجلاب ما ينقصنا من رؤوس أموال وتكنولوجيا ومعرفة وأسواق تمكنها العلاقات الدولية والمكانة الرفيعة للسلطنة بين الأمم وذلك بغرض إكمال العناصر المفقودة في معادلة التنمية الداخلية.

وختامًا، بقوة الإرادة وعلو الهمة نرى دول العالم من حولنا وخاصة النفطية منها تعيش حالة استنفار وفرق العمل تعمل ليل نهار مستوعبة لحجم التحديات وتعمل على حلها، والكرة في ملعبنا أهل عُمان!