عمامة السلطان وعقال الأمير

علي بن سالم كفيتان

 

فقدتْ منطقتنا الخليجية ركناً مؤثراً في صياغة القرار السياسي والاقتصادي والإنساني؛ فغياب الأمير صُباح الأحمد ليس رحيلاً عادياً؛ فلطالما تعودنا على وجه هذا الدبلوماسي المحنك في أروقة وردهات اجتماعات القمم العربية والخليجية والملتقيات الدولية، وكلما أطلَّت أزمة تُؤرقنا بحثنا عن صُباحاً ليزيل عتمة الظلام، ويعيد المياه الى مجاريها؛ فكان أبو ناصر لا يتردَّد في لف بشته ورفع عقاله وامتطاء الجابرية لتحوم بين العواصم وتعود للشعوب بالخبر السعيد أنَّ الفرقاء اتفقوا، وبرحيله نستذكر بيتًا من إحدى قصائد الشاعر أبو فراس الحمداني يقول:

"سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ...

وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ"

ولن نُبالغ إذا قلنا إنَّ وجه الكويت الحديث هو وجه الأمير صُباح الأحمد؛ فهو مَن نَسَج سياستها الخارجية طوال 40 عاما، ومن ثمَّ قاد دفة قيادتها 14 عاماً مرَّت فيها المنطقة بأصعب الأزمات السياسية والاقتصادية، فلم تتزعزع الكويت، وظلت دائما تنشد الحل السلمي والبحث عن أقل الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الشعوب، فارتسمت لنا الشخصية الكويتية واضحة جلية كبيت لكل العرب، ومهدٍ لكل الحركات التحررية في الوطن العربي، وعضيد للقضايا العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، التي انطلق بها الرئيس ياسر عرفات من أرض الكويت؛ فهناك تكوَّن الجسد الأول لمقاومة المحتل، وظلت الكويت تُنَاصِر الحقوق الفلسطينية علنا ودون مواربة، فلم تتلعثم في المحافل عندما تواجه المحتل، وظلت كآخر قلاع الصمود عبر حكومتها وشعبها، ولا يُمكننا الحديث عن إرث فقيدنا الكبير دون التحليق على عرين مجلس الأمة الكويتي الذي يزأر فيه مرزوق الغانم ورفاقه مؤيدين لكل قضايا أمتنا العادلة؛ فرغم تجاربنا في أزقة الديمقراطية لم نصل لربع المسافة التي قطعتها الكويت؛ فالشعب قادر على مساءلة الحكومة، وحجب الثقة عنها، والأمير لديه الأدوات التي يوازن بها بينهما؛ فبرزت الكويت في مجال محاسبة المسؤول وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولولا إيمان القيادة الكويتية بذلك لما أصبح صوت المواطن أمرًا واقعًا يُحسب له ألف حساب عند متخذي القرار.

لم تلتفتْ الكويت في عهد الأمير الراحل كثيرا لصناعة البيوت الزجاجية، وناطحات السحاب، بقدر ما كان يهمُّها تحسين دخل المواطن، ورفع مستواه التعليمي، وتمتعه بالرفاه؛ فالكويتي اليوم هو ضمن أعلى معدلات دخل الفرد في العالم، ويتمتع هذا الشعب الراقي باحترام جميع شعوب الخليج، خاصة في سلطنة عُمان، التي تُكن لكل كويتي قدرا عاليا ورصيدا وافرًا من المواقف الخالدة؛ فلن ننسَي للكويت مواقفها الجليلة معنا عندما كنا نتلمَّس خُطواتنا الأولى لبناء الوطن من دعم سياسي غير محدود، وحتى المشاركة في أعمال البناء والتعمير؛ فلم نجد حرجا مع الكويت يومًا، بل ظل الأمير يجد معنا الملاذ الهادئ الجميل؛ فكان يرنو إلى عُمان كلما وجد فرصةً من مشاغله العظيمة ليغسل همومه على شاطئ ظفار؛ حيث اتَّخذ لنفسه مقاما بيننا؛ فألفنا أبو ناصر وأحببناه كما أحبَّنا وحزِنا كثيرا على فراقه.

فقدنا في عُمان حبيبيْن وزعيميْن لطالما جمعتهما الصداقة قبل الزعامة، فأحببنا معهما كل شيء جميل؛ فقبل أسابيع الوداع الأخير، أوصى سمو الأمير بأن يُطلق على أكبر شارع في الكويت اسم أعز أصدقائه، وهي رسالة لنا في عُمان أن نُحِب الكويت التي ترحب بنا وتمنحنا مساحات شاسعة في فضائها الواسع؛ فعمامة السلطان وعقال الأمير، فارقَا هامات عظيمة، واستلمها رجال يحفظون العهد والذمة التي كانت بيننا، وسنظل معاً رفقاء الدرب الطويل، وأصوات الحق الصادحة على ضفاف الخليج، سنُلهِم إخواننا وجيراننا سبل السلام، ولن نكل أو نمل لإعادة بناء بيتنا الخليجي الذي تصدَّع؛ فالأمير صُباح -عليه رحمة الله- كان يمني النفس بصلح تاريخي بين الأخوة، فرحل هو ولم ترحل رسالة السلام التي حملها خليفته الأمير نواف الأحمد -حفظه الله.

وقبل الختام، سنقول من عُمان: إنَّ مقام سمو الأمير الوالد الشيخ صباح الأحمد -رحمه الله- في قلوبنا قبل أن يكون معلقًا في ساحل الشويمية، وسيظل ذلك شاهدًا على محبَّته لعُمان، وسنتذكر كل اللحظات السعيدة التي قضاها معنا هنا بين أبناء الشويمية الأوفياء الذين امتدحهم سموه، وأثنى على كرمهم وحُسن أخلاقهم، ولن نطفِئ شموعَ المكان أبداً، بل سنعيد إيقادها حتى زيارة أمير آخر من أرض الكويت العزيزة علينا جميعا في سلطنة عُمان.. رحم الله أبا ناصر.