فلسطين قضية العرب المقدسة

د. محمد بن عوض المشيخي *

فلسطين هي القضية المُقدسة في قلوب وعقول الأجيال العربية المُتعاقبة بلا مُنازع، فالمواطن العربي تعلَّم منذ الصغر أنَّ دولة إسرائيل أوجدتها الدول الاستعمارية لكي تتمدد في الأراضي العربية شرقاً وغرباً لتحقيق حلم الصهاينة المعروف لدى الجميع (حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل). وعلى الرغم من ذلك تتسابق هذه الأيام الحكومات العربية للتطبيع مع إسرائيل عدو الأمس والتي أبادت مئات الآلاف وشردت الملايين من الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم، والهدف الأساسي من هذه الهرولة نحو تل أبيب هو  كسب ود رئيس الولايات المُتحدة الأمريكية ترامب الذي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشريف، ومنح الكيان الصهيوني معظم أراضي الضفة الغربية والجولان السورية على خطى بلفور ووعده المشؤوم؛ لأنه أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق. وإلى جانب الدول التي ترتبط بحدود مع إسرائيل والتي سبق أن وقعت مُعاهدات سلام منذ عقود وهي مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، فتحت دول خليجية أخرى جسور الصداقة مع هذا الكيان الغاصب لمقدسات الأمة، وعلى وجه الخصوص؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين الذي هو تحت الاحتلال منذ 1967 وقد تعرض المسجد الأقصى للتدنيس والحرق من المتطرفين اليهود مرات عديدة عبر العقود الماضية. تابعنا جميعاً ما يعرف بصفقة القرن التي وضعها حصرياً نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ومستشار وصهر الرئيس الأمريكي كوشنر بغياب وتهميش كامل للطرف الفلسطيني، ثم أقر البيت الأبيض هذه الصفقة المشبوهة والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال ضم مُعظم أحياء القدس الشرقية وتقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى مستوطنات إسرائيلية مع إبقاء كانتونات صغيرة للفلسطينيين بين تلك المستوطنات، ودفن المبادرة العربية التي أجمع عليها العرب عام 2002 في قمة بيروت والتي تهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة.

من المفارقات العجيبة أنَّ نتنياهو الذي يتولى مفاوضات التطبيع مع العرب حالياً متهم بأربع قضايا فساد من قبل القضاء الإسرائيلي وسيُحاكم في قادم الأيام وقد يخسر مستقبله السياسي إلى الأبد، كما له سجل إجرامي في إبادة الشعب الفلسطيني خلال العقود المتتالية لرئاسته للحكومة الإسرائيلية خاصة أطفال غزة. أما على الضفة الغربية للأطلسي فتحاصر الرئيس ترامب العديد من الفضائح قبل أسابيع من انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تُشير كل التوقعات إلى خسارته في السباق الرئاسي أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، بسبب سجله في التهرب الضريبي وتهديده بالامتناع عن تسليم السلطة في حالة هزيمته وغيرها من الفضائح، وكذلك عدم الالتزام بالضوابط الصحية كلبس الكمام مما ترتب على ذلك إصابته بفيروس كورونا هذه الأيام. وعلى الرغم من، ذلك يستخدم الرئيس ترامب كل أساليب الترهيب والتخويف لحكام العرب عبر الاتصال الهاتفي وإرسال المبعوثين لهم لكي يفتحوا بلدانهم لإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية بدون مُقابل أو حل عادل لقضية فلسطين التي تُعد القضية المقدسة للعرب منذ زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي. وفي كل مساء يتحدَّث حكام إسرائيل ومستشارو الرئيس الأمريكي عن تحقيقهم اختراقات في إقناع دول عربية جديدة للانضمام إلى قافلة التطبيع مع إسرائيل مطبقين مبدأ العصا والجزرة الذي يستخدم في مثل هذه الحالات، فهناك التلويح بالمساعدات المالية والحماية الأمريكية وكذلك التهديد بالحصار الاقتصادي وضم إلى قائمة الإرهاب لبعض الأنظمة التي لها سجل سابق في هذا المجال.  

ووسط هذه الأجواء المُلبدة بالغيوم التي تخيم على سماء الأمة العربية وخاصة الشعوب ترتفع أصوات شجاعة لا تخاف في الحق لومة لائم.

ولعل الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة في مُقدمة هذه الأصوات الصادحة بالحق إذ قال سماحته" إنَّ تحرير المسجد الأقصى وتحرير جميع الأراضي من حوله من أي احتلال واجب مقدس على جميع الأمة ودَيْنٌ في رقابها جميعًا يلزمهم وفاؤه، وإن لم تواتيهم الظروف وتسعفهم الأقدار فليس لهم المساومة عليه بحال، وإنما عليهم أن يَدعوا الأمر للقدر الإلهي، ليأتي اللّٰه بمن يشرفه بالقيام بهذا الواجب". وقد سبق الخليلي إلى ذلك رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم في مُؤتمر اتحاد البرلمان العربي الطارئ في الأردن، والذي أمسك بنسخة من صفقة القرن المزعومة وألقاها في سلة المُهملات، مؤكداً أنَّ تلك الصفقة ولدت ميتة و"مكانها مزبلة التاريخ". أما على مستوى الزعماء العرب؛ فقد قال الرئيس التونسي إنَّ التطبيع خيانة للقضية الفلسطينية، بينما رفض الرئيس الجزائري المشاركة في صفقة القرن أو التطبيع مع إسرائيل بايِّ حال من الأحوال.

يجب أن يعلم الجميع أن القوى الكبرى لا تستطيع أن تحمي عروش الحكام بشكل دائم، بل الذي يحمي تلك الأنظمة تمسكها بحقوق الأمة وثوابتها، وإقامة حكم ديمقراطي عادل يُعبر عن آراء المواطنين وطموحاتهم نحو الحرية وإحقاق الحق والعدل.. ولعل الجميع يتذكر كيف تخلت أمريكا عن حليفها شاه إيران خلال الثورة الشعبية التي اقتلعت جذور تلك الإمبراطورية العظيمة.                           

لقد جربت بعض دول الخليج التطبيع مع إسرائيل في منتصف عقد التسعينيات من القرن العشرين، وذلك من خلال فتح مكاتب تجارية بين تل أبيب وتلك العواصم، وكذلك تبادل الزيارات بين الطرفين ولكن الانتفاضة الفلسطينية الثانية وقتل الجيش الإسرائيلي الشهيد محمد الدرة الذي كان عمره 11 عامًا فقط، قد أفشل هذه العلاقات غير الشرعية. فقد خرجت المظاهرات الشعبية في مختلف المدن العربية من المحيط إلى الخليج تُطالب بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتحت الضغط الشعبي أغلقت السلطات الخليجية تلك المكاتب في عام 2000م.

     وقد أحس الفلسطينيون فعلاً أنهم في مواجهة تصفية القضية، إذ تجلى ذلك في جمع شمل الفصائل الفلسطينية وتوحيد صفوفها لأول مرة، من خلال الاجتماع التاريخي للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت الشهر الماضي، فقد أجمعت هذه القيادات على مواصلة النضال من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره، ورفض التطبيع العربي مع إسرائيل بكل أشكاله.

 وفي الختام، يجب أن نذكر جميع الأحزاب والمنظمات الفلسطينية أن سبب إطالة مُعاناة الشعب في الأراضي المحتلة هو التشرذم والخلافات الشخصية والبحث عن المكاسب لهذه القيادات؛ مما عقد حل القضية منذ زمن بعيد. من هنا ندعو العقلاء الفلسطينيين أن يتركوا خلافاتهم جانباً ولتكون قضية فلسطين هي غاية الجميع بعيدًا عن التحزب والأنانية.

* أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري