علي بن سالم كفيتان
ظلَّت ظفار ذلك الفرس الجموح الذي صعب ترويضه عبر مُختلف حقب التاريخ حتى أتى الفارس قابوس، فلم يستخدم اللجام ولا السوط بل داراها كالمُحب الذي يُداري حبيبته وإن قست أحياناً، فنفورها فطري أزلي كتوجس كل أصيل على قيمه ومبادئه، فكانت تعجبه أنفتها وكبريائها ولم يسعَ يوماَ- طيب الله ثراه- للجامها؛ بل تركها حرة طليقة فهو يعلم- رحمه الله- غالي معدنها وكنين رجالها وجلد نسائها وصبر إنسانها الطويل، وفي ذات الوقت يعي مدى غضبها، لذلك سعى طوال حياته لمنحها مكانة خاصة هي أهل لها فدانت له في أحلك الظروف، وأوفت له الوعد بالنصر، ولم تتراجع رغم غالي التضحيات التي سُكبت على ثراها؛ فتناسى الجميع آلامه وجراحاته مع ابتسامة قابوس بالنصر، وسجل- رحمه الله- رصيدا من المواقف الخالدة التي يصعب نسيانها على أبناء الجنوب.
سيدي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- أيدكم الله- ظفار تشرفت بمقدمكم رغم عظيم حزنها على ذلك الفارس العربي الذي حلَّ وارتحل بين جنباتها فطاب له المقام فيها منذ رأى النور الأول؛ فألهمته الصفاء والوفاء، واكتسب منها صفات ظلَّ عليها حتى فارق الدنيا واقفاً. هكذا أنتم سلالات السلاطين البوسعيديين؛ فالسيد سعيد بن سلطان كان آخر عهده بالدنيا وهو على متن سفينته؛ يمخر بها عباب المُحيط الهندي وخلفه أسطول تهابه كل الأمم القوية في ذلك الزمان، وأنتم يا هيثم الخير وسلطان العهد المُتجدد خير خلف لخير سلف، ستظل ظفار حجر الزاوية في وطننا الغالي، فهنا الناس لم تتغير كثيراً عما مضى، محبون للتراب لدرجة الموت، لذلك يكثر هديرهم عندما تمس الأرض، ولو في وقت الرخاء، فيتناحرون عليها بينهم أحياناً، ويجادلون السلطات لأجل بقائها خضراء يانعة وليس لأجل البقرة والناقة والشاة كما يروج البعض، هداهم الله، بل خوفاً من أن تأتي سحائب الخريف ولا تجد تراباً طاهراً معفراً بأكاليل الخزامى وباقات النفل.. فعلى تلك الربى الخضراء وعلى مفازات الصحراء وفي أروقة الحارات القديمة بمدن الساحل ما زال اللبان ينفح عبيره ليهب الجميع عزة النفس التي لم تهن يوماً على صاحبها في ظفار.
هنا أحفاد الثوار وأبناء المحاربين على الثغر الجنوبي العزيز ترقى هاماتهم لعلو قامتك وبهاء وجهك يا سيدي؛ فخطاك عندنا غالية، ومقامك بيننا ميمون، فكم اشتقنا لمواكب السُّلطان وحضور الحكومة إلى ظفار كعاصمة صيفية لمقر الحكم وصنع القرار، فلطالما طبعت بمقر قصر الحصن العامر اتفاقيات وحلت قضايا وإشكاليات، وكم استضاف قصر الرباط شخصيات فكانت ظفار مقاماً طيبًا لهم، وكم جبر قصر المعمورة من نفوس لاذت بسيده فرحب ولبى، وفي كل هذه الأنحاء وغيرها نفّس السلطان الكرب وأنصف المظلوم وفك حاجة العاني، فظلت القصور والمواكب برلمانات مفتوحة دون حاجب.
سيدي السلطان.. أهل ظفار جميعاً اليوم سعداء بوجودكم بينهم، فروح قابوس عادت للجسد بمقدمكم، وبشائر العهد الجديد هلَّت بخطاكم، ولن يخطئ الراعي أو الصياد طائرتكم العمودية وهي تلف مدن وجبال وبوادي ظفار، فلطالما جلبت معها أخبار السعد، فعندما يُحلق السلطان كالشاهين يرى كل ما يدور على الأرض فتهبط أحياناً وتحوم في أحيان أخرى، لذلك ما زال الجميع ينتظر بلهفة تحليق الهيثم في سماء ظفار، ليرى جمالها وبهائها، ويصغي لأهلها، ليحدثوه عن همومهم مهما كانت بسيطة، فقد طالت الشقة على الجميع قرابة العقد من الزمن، حمل فيها رجال أوفياء أمانة المسؤولية، لكن نفس السلطان لا تعوض، فوجوده مهابة، ولا تستقيم الموازين إلا بعينه المتقدة والفاحصة معاً.
سيدي السُّلطان.. عندما مخر عباب موكبكم السامي عمق حاضرة الجنوب ولؤلؤة جزيرة العرب مدينة صلالة، لم نر في غبار الموكب مشكلة بلدية؛ بل ذكرتنا الأيام بغبار المعارك التي خضناها مع رجل يعشق الغبار ورائحة البارود، وزهيم الرجال وصيحات التكبير لله، مع كل نصر عشناه معًا. سيظل الغبار في ظفار رمزًا لكفاح الأوفياء لتثبيت الدولة العصرية؛ ففي المدينة سادات العلم والدين ورجال جنّدوا عقولهم وأموالهم لتثبيت أركان الدولة، وما زالت الأرياف تشتاق للصبائغ (لبس نيلي ظفاري) ومواكب الهبوت إلى قصر الحصن العامر، بعد كل موقعة نصر، وفي البادية رجال حموا الثغور العمانية ولم يبيعوا ولم يُشتَروا، عندما باع الجميع، ديدنهم الوفاء جميعًا، وشعارهم أنَّ كل شبر من عُمان يعني الجنة لهم وجهنم للعدو.