حين تكون مُحمدًا

 

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

مُؤيَّد.. طفل عربي مُسلم من العراق، من سكان الموصل، وينتظم كتلميذ في مرحلة التعليم الابتدائي بإحدى مدارسها، مُربية صفِّهِ سيِّدة عربية عراقية فاضلة من الطائفة المسيحية الآشورية، كانت تُداعب تلميذها المحبَّب "مؤيد" فتناديه دائمًا باسم "مُحمد"، وهو ببراءة الطفل يتعجَّب من إصرارها على مُناداته هو بالتحديد باسم "محمد" دون باقي أقرانه، والذين تحفظ أسماءهم عن ظهر قلب، وتناديهم بها كأي تربوية نجيبة، كان "مؤيد" يتحرَّج من تفرده بغيير اسمه، وفي المقابل كان يتجاسر أحيانًا بعفوية ويصحِّح لها اسمه فتصر على مناداته بـ"محمد"، بل وتقول له: "أنت محمد"!!

وفي أحد الأيام، لملم "مؤيد" ما استطاع من جرأة وشجاعة، وقرر حسم الشك باليقين، وذهب إلى مكتب مربية فصله، وبعد أن أذنت له بالدخول سألته عن حاجته؟ فقال لها: "أريد أن أسألك يا معلمتي عن سر إصرارك على مُناداتي باسم "محمد" رغم معرفتك باسمي الحقيقي وهو "مؤيد"؟!"، فردت عليه: "أنا أعلم أنك مؤيد ولست محمدا، ولكن يا بُني حين تكون مُحمَّدا ستحب كل الكون بما فيه وما عليه من بشر وكائنات؛ فمحمد يا بُني ليس للمسلمين فحسب بل رسول وقدوة للعالمين، مُحمد يا بُني رسول المحبة، وأنا أتمنى أن تكون محمدًّا لكي تشعر بالإنسانية من حولك؛ لهذا أريدك أن تكون مُحمَّدًا". لم يفهم الصبي اليافع "مؤيد" هذه الفلسفة العميقة من معلمته، ولم يسعفه عمره المعدود ولا فكره المحدود في أن يستوعب رسالة أن يكون مُحمدًا، فشكر معلمته واستأذنها، وأهم ما كان يشغله وجد جوابه وهو أنه "مؤيد" وليس محمدًا، وأنَّ معلمته لم تكن تهدف تجاهله أو إحراجه بين أقرانه.

تدور الأيام، وتُطوى السنون والأعمار، ويُنكل بالعراق العظيم من قبل تتار العصر الأمريكان وحلفائهم الإنجليز، وبتواطؤ الجوار، ويتحلل العراق تدريجيًّا على كافه الصُّعد، ويعيش سنوات عجاف من القتل والتهجير والنزوح والفراغ الأمني، وتنال جميع مكوناته بلا استثناء مرارات الاحتلال وما بعد الاحتلال، وصولًا إلى فصول الربيع العبري البائس ليكمل الدواعش رسالة المحتل بالذبح ونشر الخراب والدمار، وكان نصيب المكونات الصغيرة بالعراق من نصارى وإيزيديين وتركمان... وغيرهم كارثيًّا من قبل هؤلاء الأوباش؛ حيث استُبيحت دماء وأعراض وأملاك بلا رحمة ولا شفقة ولا دين. كان "مُؤيد" في هذه المعمعة شابًّا أنهى دراسته الجامعية، وكغيره من الشباب العراقي في حِيرة مما حدث لوطنهم دون بارقة أمل للخروج من هذا السيناريو الكارثي. ويتابع الأخبار اليومية وما حدث في هذه المحافظة وتلك المدينة، وما نال هذه الطائفة وتلك القومية من تفجيرات وقتل مُنظَّم وتهجير، حتى أصبح العراق كله ما يُشبه المقبرة وسرادق العزاء الذي لا يتوقف. وبعد سقوط الموصل بيد داعش عام 2015 سأل "مؤيد" وتحرَّى كثيرًا عن مُعلمته الآشورية، فعلم بعد جهد كبير أنها هاجرت مع عائلتها إلى السويد بعد مقتل عدد من أفراد أسرتها ومصادرة أملاكهم، فرح كثيرًا بسلامتها وحَزِن كثيرًا على مصيرها وهجرتها القسرية لوطنها العراق، والذي أصبح طاردًا لأبنائه ومصيره ومصيرهم للمجهول، يقول "مؤيد": "اليوم فقط قرَّرت أن أكون محمدا، وليت جميع العراقيين يقرِّرون مثلي، فلو كان كل منا محمدًا لوفرنا على العراق الكثير من الدماء والآلام والجراح، ولعاد العراق سريعًا كسفينة نوح تحمل الجميع وتنجيهم من طوفان الطائفية والعصبية الجاهلية والتشفي والثأر والحقد والانتقام".

وبالشكر تدوم النعم...،

-------------------

قبل اللقاء:

"عندَما كُوِّرَتْ

عندَما كلُّ آياتِها صُوِّرَتْ

قيلَ للشمسِ أنْ تَستَقيمَ على مَوضع لا تَغيبْ

وَلِلنَّجمِ كُنْ أنتَ منها قريبْ

ثمَّ خُط علَى الأرض مُنعَطَفانْ

تَبَجَّسَت بينهُما الماءُ،

وانحَسَرَتْ آيَتانْ

بمُعجِزَةٍ تَجريانْ

فالتَقى الفجرُ باللَّيل

والنارُ بالسَّيل

كلٌّ بأمرٍ يُساقْ

وأتى الصَّوتُ:

كُوني..

فكانَ العراقْ!"

من قصيدة "سفر التكوين" لشاعر العراق الكبير عبدالرزاق عبدالواحد.