الطريق لاستعادة الجَدَارة الائتمانية

 

يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

أفضتْ الجهود التنموية للسلطنة -خلال الخمسة عقود المنصرمة- إلى تحقيق إنجازات واسعة وملموسة على مختلف الأصعدة والمجالات، إلا أنَّ السلطنة تواجه في الفترة الحالية تحديات جسيمة فيما يتعلق بتصنيف الجدارة الائتمانية؛ حيث خفضت المؤسسات الدولية ووكالات الائتمان التصنيف الائتماني للسلطنة إلى أدنى مستوياته؛ الأمر الذي أدى لانعكاسات سلبية على بيئة الأعمال، وارتفاع نسب الفائدة وكلفة الدين العام إلى مستويات مرتفعة جدا، ناهيك عن صعوبة الحصول على التمويل اللازم للحكومة والقطاع الخاص.

والجدارة الائتمانية للدولة تعدُّ عاملا مهما وعنصرا أصيلا لنجاح العملية التنموية وترتبط تكلفة الحصول على أموال من الخارج؛ سواء للحكومة أو القطاع الخاص، بما فيها البنوك على التصنيف الائتماني السلطنة في المؤسسات الدولية. كما يسهم تصنيف الجدارة الائتمانية بدور محوري في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتسويق الفرص الاستثمارية وبيئة الأعمال بشكل عام. وهو من وجهة نظري أحد أبرز ممكنات نجاح الرؤية المستقبلية "عمان 2040"، إذا ما كنا نتحدث عن تحول جذري في النموذج التنموي ليكون قوامة الاندماج الإيجابي مع العالم الخارجي من خلال الاستثمار والإنتاج والتصدير.

وتُشير تقارير الجدارة الائتمانية خلال العام 2020 إلى أنَّ وكالات التصنيف الائتماني العالمية المعروفة، قامت مؤخرا بتخفيض مستوى جدارة السلطنة الائتمانية؛ حيث خفضت وكالة موديز التصنيف من (Ba1) إلى (Ba3) مع تغيير النظرة المستقبلية إلى سلبية، كما خفضت وكالة ستاندرد آند بورز من (BB) إلى (BB-)  مع نظرة مستقبلية سلبية، وقامت وكالة فيتش بتخفيض التصنيف الائتماني من (BB+) إلى (BB) مع نظرة مستقبلية سلبية. واعتبرتْ جميع هذه المؤسسات أنَّ الإجراءات المالية التي تم تبنيها مؤخرا فيما يتعلق بضبط الانفاق العام، لن تكون كافية في دعم قدرة السلطنة على خفض الدين العام.

وتدنِّي التصنيف الائتماني في التقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الائتماني وغيرها من المؤسسات العالمية، ما هو إلا محصلة للعديد من الأسباب التي ترتبط بمؤشرات استقرار الاقتصاد الكلي، كأداء المالية العامة من حيث الإيرادات والنفقات والعجز المتوقع والذي عادة ما يشير إلى قدرة الدولة على تحمل أعباء الديون القائمة والإضافية، إلى جانب معدلات النمو الاقتصادي، والتضخم وأداء ميزان المدفوعات، وجدارة الجهاز المصرفي؛ ومنها ما يرتبط بعوامل إقليمية وجيوسياسية كالاستقرار الأمني والاجتماعي، وتاريخ الدول والتزامها بسداد الديون.

وما نحتاجه لاستعادة الجدارة الائتمانية هو خطة إصلاح اقتصادي ومالي واضحة المعالم وتدخلات بسياسات عامة واضحة تمسُّ جميع الأسباب المذكورة سالفاً، وتعالج اختلالات عناصر الإنتاج الأربعة المعروفة، وكذلك أدوار اللاعبين الأربعة لتحقيق عملية التنمية؛ حيث اتَّسمت الفترة السابقة بضبابية المسارات وعدم وضوح الافق فيما يتعلق بالالتزام بتخفيض نسب الإنفاق والعجز والدين العام في أوقات النمو والإيرادات المرتفعة. فعلى صعيد الميزانية العامة، يأتي تخفيض التصنيف الائتماني للسلطنة، من بين عوامل أخرى نتيجة عدم وجود إيرادات ثابتة ومستدامة لرفد الموازنة العامة؛ فالإيرادات النفطية باتت تتسم بدرجة عالية من عدم اليقين وعدم الاستدامة، كما أنَّ إيرادات الشركات الحكومية تخضع أيضا للتقلبات الاقتصادية وظروف السوق، ولم تستطع هذه الشركات تحقيق عوائد مالية تتناسب مع حجم استثماراتها الضخمة.

وفي سياق مُماثل، فإنَّ تحقيق تحسُّن في التصنيف الائتماني مرتبط مباشرة بإقرار إطار ضريبي واضح وشفاف وملزم يرفد الميزانية بدخل معلوم ومستدام؛ وذلك لكون المؤسسات الدولية لا تؤمن بالموارد الطبيعية -مثل النفط والغاز المتسمة بالندرة ومعرضة لدرجة عالية من عدم اليقين- كمصدر ثابت لتوفير الإيرادات للميزانية. ولا شك من أهمية جود إطار مالي وقانوني ملزم بحيث لا تتعدى سقوف العجز والدين والاحتياطيات مستوى معينا. كما أنَّ هناك ضرورة لبدء نشر التقرير الخاص بمشاورات المادة الرابعة الذي يعده سنويا صندوق النقد الدولي؛ حيث تأخذ هذه المؤسسات على السلطنة عدم الموافقة على نشر التقرير، والذي تقوم جميع دول العالم بنشره ما عدا السلطنة وعدد قليل جدا من الدول. كما يجب الانتباه إلى أنَّ هناك علاقة سببية تبادلية ما بين الجهاز المصرفي والتصنيف الائتماني للسلطنة. فمن ناحية، تتأثر الجدارة الائتمانية بمدى متانة القطاع المصرفي وقدرة مؤسساته على الصمود والتعامل مع الأزمات المالية والاقتصادية، والتي تعتمد بدرجة كبيرة على وجود كيانات وبنوك ومؤسسات مالية عملاقة وتعمل وفق أحدث التقنيات والمنتجات المالية وجود بنوك دولية تعمل في القطاع المصرفي المحلي وتربطه بالعالم. ومن ناحية أخرى، فإنَّ القطاع المصرفي يواجه مخاطر جسيمة نتيجة لاستمرار تراجع التصنيف الائتماني للدولة؛ من حيث ارتفاع تكاليف الاقتراض على هذه البنوك، والحد من قدرتها على الاقتراض، إلى جانب مخاوف المستثمرين من الاقتصاد العماني وجدوى الاستثمار فيه.

هُناك حاجة ماسَّة لعمل الفريق الحكومي الجديد بتحسين ترتيب السلطنة في التقارير الدولية ذات الصلة؛ مثل: تقرير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن مؤسسة التمويل الدولية والبنك الدولي، وتقرير التنافسية الصادر عن معهد التنمية الإدارية، والتقرير الدولي للتنافسية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي... غيرها. وتعدُّ التقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الائتماني وغيرها من المؤسسات العالمية أداة مهمة لمتخذي القرار والمستثمرين لتقدير مدي تنافسية البيئة الاستثمارية ومؤشرات الإنتاجية في السلطنة. وتعتمدُ هذه التصانيف على بيانات نوعية مستوحاة من واقع المسوحات الميدانية، وبيانات كمية تتعلق بالأداء الاقتصادي ومدى التقدم التقني يتم الحصول عليها من خلال النشرات المحلية والدولية.

بشكل عام.. المغزى من قيام العديد من وكالات التصنيف الائتماني والمؤسسات العالمية من قياس الجدارة الائتمانية يتمثل في ضمان حقوق المقرضين وتبيان قدرة المقترضين على السداد، والتي بناء عليها تتحدد أسعار الفائدة وتكلفة الحصول على التمويل. ولذلك دائما ما يأتي تحسين الجدارة الائتمانية من بين الحلول الكفيلة بتحسين مناخ الاستثمار وتنافسية السلطنة لتعزيز بيئة الأعمال غير محفزة حاليا للاستثمار المحلي والأجنبي، ولكي لا يظل الاعتماد على القاطرة الحكومية لإدارة الانشطة الاقتصادية.

هُناك الكثيرون الذين يرون أن هذه التصانيف تخضع لاعتبارات سياسية؛ حيث تم اعتبار هذه المؤسسات مسؤولة بشكل مباشر عن الأزمة المالية العالمية في العام 2008؛ إذ منحت تصنيفات ائتمانية مرتفعة للأوراق المالية في مجال الرهون العقارية، كما تمَّ توجيه النقد لهذه المؤسسات من قبل الاتحاد الأوروبي الذي حمَّلها مسؤولية تفاقم أزمة الديون في بعض الدول الأوروبية المضطربة نتيجة تخفيض تصنيفها الائتماني بشكل حاد.

وأيًّا ما كان الأمر، هناك هدف وطني في مُقدِّمة سلم الأولويات لتحسين الجدارة الائتمانية يجب على الحكومة والقطاع الخاص معالجته، والعمل وفق خطة تواصل وتوعية بخطورة تدهور التصنيف الائتماني وتكلفته وأبعاده وأهميته.

كما نكرِّر دائماً أنَّ هناك عددًا من المتغيرات والتحديات التي تفرض ايقاعا مختلفا، وتتطلب مقاربة تنموية جديدة تستهدف توسيع القاعدة الإنتاجية في المرحلة المقبلة. ولا مَنَاص من أن تعمل السلطنة بفكر جديد لضمان الحصول على مراتب متقدمة من وكالات التصنيف العالمية... وغيرها من المؤسسات؛ تأكيدا على سياستها القائمة على الانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي بوصفه وسيلة لتعزيز الكفاءة والمنافسة والإنتاجية، وكذلك مساندة القطاع الخاص في النفاذ إلى الأسواق العالمية لزيادة حجم صادراته الوطنية، وجذب الاستثمارات الأجنبية وأحدث التقنيات في مجال الإنتاج والتصنيع. والخلاصة أنَّ الجدَارة الائتمانية والبيئة الاستثمارية عاملان مهمان ومفصليان للنمو والتنمية؛ حيث يمثلان أرضية صالحة لنمو بذور التنمية وتشغيل محركات النمو.