وداعا يا رفاق

 

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

بدأ نسيم الشمال يُطلق زفراته مُبشِّرا بتباشير الشتاء، والأرض هنا تحتفل بكل المواسم على طريقتها المعتادة؛ فموسم الشتاء ارتبطَ بصرير الريح وحفيف الأوراق الساقطة بعد الربيع وهي تتناثر في الفضاء اللامتناهي باحثةً لنفسها عن وجود في ذلك العدم، ورغم تراقص الأغصان وتجرُّدها من الخضار، إلا أننا نظل على موعد بنمو براعم جديدة على ذلك الجذع الكالح من تعاقب المواسم الأربعة؛ فتارة يمنحنا لون الجنة، وتارة يزهر ويبعث في نفوسنا البهجة، وتارة نراه شاحبا من قسوة الريح ولفح الشمس.. إنها ظفار، تلك الجنة القصية في هذا الكون الجميل.

تفرَّقت الجماعات التي كانت تجُوب المكان، وازداد اللقط وقل الدبيب على التراب الذي استمر قرابة 14 عاما من الآمال والأحلام حتى تلاشت تماماً، وراجع الجميع حساباته، إلا تلك الفرقة الصغيرة التي لم يُقنعها كل ما يجرى، فمضت إلى نهاية نفق النضال، قال لهم قائدهم وهم يمضُون بين الأحراش: "ما الذي يجبركم على اتباعي رغم معرفتكم بأن النهاية مؤلمة؟"، قال الذي يليه: "لا مقام لنا في كل هذا السديم من التناقضات، لقد وجدنا ذات الهدف بعد أن ذهب الجميع إلى خياراته، ولم يبقَ لنا إلا اتباعك أيُّها البطل، امضِ ولا تأبه برغاء ذلك الجمل الرابض في المناخ منذ سنوات، إنهم يستخدمونه للتكاثر فقط؛ فسلالته أصيلة، لكنه بات أسير ذلك القيد"، فقال أحدهم: "أتُرى هذا يؤثر على طبيعة أبنائه؟ هل سيكونون مكتئبين؟ أم سيتأصَّل فيهم حب القيد؟"، قال القائد: "عليك أن تسأل الراعي، فهو يعلم سلالات ذلك الجمل الأسير".

سقطتْ الشمس الشتوية من الأفق، ولجأ الرفاق لكهف صغير على حافة وادي سحيق، أخرجوا من حقائبهم بقايا سكر وفتات شاي وبعض المُعلبات، كانوا حذرين في إيقاد النار، فأي قبس في هذا الظلام الحالك قد يُؤدي للموت، تجمَّعوا في حلقة محكمة، وأوقدوا نارهم التي أنضجت لهم الوجبة الأخيرة، ثم دفنوها، وكلُّ واحد منهم انزوى إلى ناحية، ودخلوا في سُبات عميق ما عدا العين الساهرة التي لم تغفُ طوال تلك الليلة الباردة، تتأمل حركات وسكنات الأشجار التي تعزف لها الريح، وتستمع لهمهمات البوم وصرير الليل.. يقول القائد في نفسه: "ما أجمل هذه السيمفونية وكأنني أستمع لها للمرة الأولى، وربما الأخيرة"، أطلق كلَّ حواسه للطبيعة مُنتظراً المجهول القادم في أي لحظة.

وفي هذه الأثناء، قام أحدهم يريد أنْ يذهب للخلاء، وأثناء عودته انضمَّ لصاحبه الجالس على أطلال النار التي قبروها في بداية الليل؛ فالجمر لا يزال تحت الرماد يمنحهم الدفء، لكنهم يفتقدون فرقعات اللهب في ذلك الليل الشتوي قارص البرودة، وتلك الأنحاء الموحشة.. فقال القائد: "المهم أنك تحس بدفء"، قال الآخر: "نعم"، قال له: "هذا يكفي في هذه المرحلة، فربما سيأتي يوم وتفتقد حتى هذه الجرعة البسيطة من الإحساس بالبقاء؛ فالطبيعة قاسية يا رفيقي، لكن الجلد يُعيد تراتبية الفصول". هُنا ظهرت تباشير الفجر، وقام الجميع فتوضأ البعض، والبعض تيمَّم، وصلُّوا الفجر حاملين بنادقهم، وأطال القائد في قراءته على غير العادة، ودعا طويلا في قُنوت الركعة الأخيرة، وبعد السلام استنكر البعض من ذلك، فقال لهم: "مجرد إحساس بالقرب من الله".

بينما هم كذلك، بدأت المعركة الأخيرة، سقط القائد الذي زَحَف إلى حقيبته وألقاها في النار، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقضى الجميع، باستثناء المتمترس في أعلى الكهف دون حِرَاك، فقد عقد النية على الثأر لرفاقه الذين سحبهم القدر أمامه.. تقدَّم المهاجمون بعد أن صَمتت بنادق المدافعين، لتعود المعركة من جديد بسقوط اثنين من القادمين على يد صاحب الكهف، أُعِيدت الحسابات، وتمَّ قصف المكان حتى تمَّت تسويته بالتراب، ولم تتبقَ إلا فتحة ضيقة تقود للمغارة، أطلق المهاجمون كلبًا لاستكشاف الوضع في الداخل، فتقدم إلى أن وصل للرفيق، فقطع له قطعة من لحم رجله التي أُصِيبت فاستكان الكلب وتيقن الجميع بأنَّ الوضع مناسب، فاقتحموا الكهف للمرة الثالثة، وهنا فقدوا عددًا من الضحايا بحيث توازنت كفة المعركة.

بعد تفاوض طويل، خرج ذلك الثائر يجر أشلاءه من بطن المغارة، ومر على ساحة المعركة، وقال: "وداعا يا رفاق".