الغلو والتطرف والحاجة للمواجهة الفكرية (1 ـ2)

عبد الله العليان

 

منذ فترة وجيزة تابعت حواراً فكرياً في إحدى القنوات العربية، عن قضية التَّطرف الذي يُفضي إلى الغلو ثم إلى العنف، وسرد المشاركون في هذا اللقاء، مخاطر التطرف وآثاره ومشكلاته، وأهمية مُواجهته بالحسم والردع، حتى يتم القضاء على هذه الفئة الضالة كما قال بعضهم، وتكون عبرة للآخرين الذين قد ينحون منحى التطرف.

والغريب أنَّ أحد هؤلاء الذين شاركوا في الحوار، رجع بنا إلى التاريخ السحيق، وأن التَّطرف والغلو له سوابقه عبر التاريخ، مع أن التطرف في عصرنا الراهن يختلف اختلافاً بيناً في منطلقاته وأهدافه، والحقيقة أنَّ مسألة رفض العنف والتطرف، الذي نتج عنه الغلو في عصرنا الراهن، لا يختلف أحد على رفضه وضرورة مواجهته فيمن يحمل السلاح، ووقفه لحماية الوطن واستقراره وأمنه، وهذه قضية مفروغ منها، لكن الإشكال أنَّ هذا الغلو والتطرف، لم يأت هكذا دون أسباب ومسببات، دفعت بعض هؤلاء الشباب إلى هذا المنحى من الأفكار العنيفة والمغالية. وكثرت وتشعبت التحليلات والتقييمات لمسألة الغلو والتطرف، الذي برز بصورة ملحوظة في العقود الثلاثة الماضية، فبعض هذه التحليلات، ترجع قضية التطرف إلى الظروف الاقتصادية وحالة الفقر والفاقة عند بعض الشباب، والبعض الآخر أرجع هذه الأسباب إلى الاستبداد والقمع وغياب الحُريات العامة، ويرجع بعضهم ذلك إلى غياب التمسك بالدين وظهور الأفكار الدخيلة، وتفشي الانحلال والتفسخ في المُجتمعات المسلمة، وبعض ينسبها إلى عوامل نفسية نتيجة التربية القاسية داخل الأسرة.

لكن هذه التحليلات التي تتناقض رؤيتها في تقييم هذه الظاهرة، لم تقبض على الأسباب الصحيحة بصورة شاملة ومدركة لأسبابها؛ فالتطرف والغلو، أسبابه تختلف من دولة إلى أخرى، ومن مُشكلة إلى أخرى، وبروز سببها في دولة بعينها، قد يختلف عنها في دولة أخرى، ولذلك كل واحدة من تلك التحليلات، قد تكون سبباً في جهة، لكنها في جهة أخرى ليست كذلك، ويتم التعامل مع هذه الظاهرة في جانب مختلف، لاعتقاد البعض أنَّ الأسباب واحدة في كل هذه الدول، مما جعل المُعالجات غير دقيقة وفاشلة، وأسهمت في بقاء هذا الغلو التطرف، يعاود بين الحين والآخر، ولم يتم القضاء على جذوره الحقيقية.

لا شك أنَّ قضية التطرف والغلو، والذي ينتج عن العنف، لا يواجه بالقوة العسكرية وحدها، فهذه الوسيلة لا تنجح في استئصاله، ولن يتم القضاء عليه بالقوة والبطش لوحدهما، ذلك أنَّ التطرف والغلو هو فكر في المقام الأول، وهذا الفكر يُقاوم بالفكر، ولا يتم بالحلول الأمنية لوحدها، بل يحتاج الأمر إلى وسيلة الحوار والنقاش، والرد على دعاوى الفكر المتطرف المخالفة للقيم الإسلامية، عندما يحمل السلاح في مواجهة مسلمين آخرين. صحيح الذي يتخذ وسيلة العنف والتطرف، طريقاً للتغيير أو الانتقام، أو أي شيء آخر من الأساليب، سيُقاوم بالقوة بلا شك.

فالمتطرف لم يُولد متطرفاً، بل إنساناً طبيعياً مثل بقية أقرانه في البيئة الاجتماعية الواحدة، وهذا الانتقال كما أشرنا سببه عوامل دافعة لهذا العمل بلافتة دينية، وقد تكون سياسية في منطقاتها- وهذه غالبة على أفعال المتطرفين- وقد تكون اقتصادية، أو فكرية، أو دينية أو نفسية، واختزال فكر الغلو والتطرف مُقاربات في جانب واحد غير صحيحة، لكن العامل السياسي هو الغالب بلاشك، وهذا برز في الكثير من الأحداث التي جرت في الكثير من الدول العربية والأجنبية. ومن هنا؛ فإنَّ التطرف يعمي صاحبه بالفهم المغلوط عن الدين وقيمه، أو من فعلته التي لن يحصد منها سواء الندم والأثر النفسي بعد سنين، إن بقي على قيد الحياة، لذلك فإنَّ المعالجة الفكرية أثرها أكبر وأفضل.

وأتذكر عندما كنَّا في فترة الدراسة الجامعية في مصر، في النصف الأول من الثمانينات، كنَّا نتابع حوارات العلماء البارزين، ومنهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، مع أعضاء الجماعات الإسلامية، الذين اغتالوا الرئيس الراحل أنور السادات وأنصارهم، وهم في السجون، وقد أثمرت هذه الحوارات عن تراجع هؤلاء عن أفكارهم، وأصدروا بعد ذلك كتباً سموها بـ"المراجعات"، وهذه من ثمرات الحوار الجاد في بيان حقائق الدين ومنطقاته الفكرية بعيداً عن استخراج النصوص وتأويلها في غير مرادها.

والذي أود التوقف عنده، أنَّه من الضروري المُواجهة الفكرية لهذا الغلو، لأنَّ هذه التنظيمات تتغذى على مستنقعات التوترات والإحباطات والإقصاء، في الكثير المناطق المتوترة، وفي غياب معالجة عقلانية وامتصاص الغضب والاحتقان السياسي، والمُواجهة الأمنية تجعله يخمد ويتراجع ويهرب، لكنه يعود بعدما يستجمع قواه، ويشكل خلايا نائمة أخرى، وهذه حصلت في دول عديدة، فالفكر لن ينتهي بالقوة، ولذلك من المهم أن تتقاسم المواجهة الفكرية مع المواجهة العسكرية، لتقليص ما تستفيد منه الجماعات المتطرفة؛ فالأفكار لديهم مهما كانت تطرفها وغلوائها وحدتها، لا تستطيع الصمود فكرياً، لأنَّ بضاعتهم الدينية محدودة، ولا تستقيم وحقائق الدين القويم، ولا يكفي- كما قلت آنفاً- أن تبقى المُواجهة العسكرية والحلول الأمنية، هي التي تتقدم وبيدها الحل والربط في المعالجة.

ومن هنا لابد من استيعاب الشباب الذين غرر بهم دون أن تكون الرؤية الثاقبة والواعية للكثير من الآراء التي تقدم لهم، فدمجهم في الحياة العامة له أثره المهم، وهذا هو السبيل لتقليص الأفكار المتطرفة والمغالية.. وللحديث بقية.