التطبيع

 

فاطمة الحارثية

إنني مُدركة أن قبولي لما أنا عليه، وإقراري لذاتي بجميع جوانبها الضعيفة والقوية، والبحث عن الكامن يمنحني التوازن الذي أحتاجه لأداء رسالتي التي خُلقت لها: "لا أعلم" نعم أيُّها الأعزاء، أُقر بكل بساطة أنْ لا علمَ لي عن كثير من الأمور، وإنْ قُمنا بعقد مُقارنة بين مقدار ما نعلمه من علوم تلقيناها عبر وسائل التعليم المختلفة مقابل ما لا نعلم؛ فبإمكاني القول إنَّ جميعنا لا نعلم أي شيء.

ومع هذا، فبالإمكان أن نتفق على أن مواجهة الحياة تحتاج معرفة ببعض الأساسيات، وأيضا نستطيع أن نتفق على نوع هذه المعرفة ومداها؛ فمثلا وُلدنا على دين وهوية ووطن آبائنا، لم نختَر أيًّا منها ولم نختر أمورًا كثيرة أخرى، ثم غَزتنا الموروثات من عادات وتقاليد ومعتقدات، والغالب منا سلك سجية أهله، لأنه بُرمج على ذلك منذ نعومة أظافره، بالترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، أو ربما استسهل الأمر، خلاصة الفكرة أنه لم يختر جُملة حياته، وأهم بواطن معاشه؛ لكنه كما نعلم تسلم زمام من بعده ليخرج طاقة السلطة فيهم، وهكذا يتم الاختيار لنا ونحن نُنهِج لمن بعدنا. في بداية حياتنا، يُقال عنا صغارًا لا نستطيع أن نقرر المناسب، ثم في مرحلة الشباب قد نسمع قول "عديم خبرة" كعذر للهيمنة على حياتنا واتخاذ القرارات عنا، وفي الكهولة إنه كبير في السن لا يستطيع أن يواكب المتغيرات... وهكذا الحال عند البعض.

كم منكم داعبت جُملة "أنت مثل أبيك" خلجات السرور والفخر في نفسه؟ وكم أُنثى ابتسمت اعتزازا عند سماع جملة "أنتِ مثل أمك أو جدتك"؟ وكأن الاستنساخ مَفخرة وجب الاعتزاز بها أو السعي إليها، سواء كان الاستنساخ مقبولا أم غير ذلك؛ تختلف وجهات النظر، وكلٌّ يحكم حسب الانطباعات التي شكلها في الأمور من حوله، تحديدا من منظوره الخاص، وعندما لا تروق للبعض آراؤك، يتأفَّف ويتهمك بإصدار الأحكام لتتحول "لا أعلم" إلى "لا تعلم".

إذن: متى ستقرِّر أن تستقل وتختار؟ أن تصنع التغيير لا أن تُصبح إمَّعة له، أن تترك زمام حياة الناس لأصحابها، وتكفَّ عن الوصاية عليهم، لا يجب على أحد أن يُصبح نسخة منك حتى لو كان من أهلك المقرَّبين، فلا أحد يستطيع أن يُجزم أنه على صواب أو يدَّعي أن غيره على خطأ، وإن وُلدنا على هيئة توائم سنُدفن أفرادا، وثمة حقيقة بيَّنة بأن لا ثناء على أحد يوم اللقاء العظيم، إذا مارس حياته تابعا وليس مُنجزا، مُسلِّما باختياره وقناعته وليس بالولادة أو الوراثة، مُصلِّيا لله عبادة وليس عادة، مواطنا صالحا بولائه وليس بمقابل، صادقًا أمينا بإرادته وليس لأنه قيل إنه مُلزم بذلك، كفانا تقديسا للرموز، ولنرتقِ للجوهر، ونستقل بإرادتنا الحرة التي منحها الله لنا.

رُبما إدراك فحوى الاستقلال صعب على بعضنا، والكثير من الناس تتجنَّبه خوفا من تحمُّل المسؤولية و"اللوم"، والذي قد يَتَّبِعه المحيط الراغب بالهيمنة، من أجل قمع ممارسات المُفكر والمستقل وأحيانا يكون من أجل فرض السلطة أو "أهواء" الأقلية على الجماعة؛ فالمستقل قد تتغيَّر قناعاته بحجج الإقناع والبراهين، بينما "الخانع" يحكمه وهم الحاجة والظروف، فيُبقى رأسه مطأطأ ويعتزل مشقة التفكير، ليُصبح متعصبا ثابتًا في أمره، وإن بدت له كل البراهين أنه في أمر خاطئ يُتقن البقاء في جهله بشكل مُثير للدهشة.

-----------------

جسر:

مُؤمنة بأنَّ مُواطني الجنة لا تبكيهم الأرض التي سُخِّرت لهم، وأنَّ عزمهم لا يُخدش مهما هام الأغراء من حولهم، هم أصحاب فكر نيِّر وكلمة صادقة، والحياة عندهم مبدأ وليست تعصبًا، ولا يقبلون بالتطبيع، لأنهم ليسوا نُسخا، ولا يقبلون أن يُستنسخوا لإيمانهم بالإرادة الحرة، وإخلاصهم للسعي نحو الخلود.