إدارة أزمة الاقتصاد الكلي ودور السياسة النقدية

يُوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

تُعدُّ السياسة النقدية إحدى أبرز السياسات الاقتصادية الفاعلة لتأثيرها في النمو الاقتصادي، والتأثير في مُختلف المتغيرات وعوامل الإنتاج وأدوار الفاعلين في العملية التنموية، خاصة أفراد المجتمع وشركات القطاع الخاص فيما يتعلق بحشد المدخرات وتوجيهها للاستثمار في القطاعات الإنتاجية بالتكلفة والتوقيت والحجم والأوعية المناسبة.

ولعبتْ هذه السياسة دورًا مُهمًّا في العديد من الدول لمواجهة تداعيات أزمة كورونا، وتوقف الأنشطة الاقتصادية، وتعرُّض العديد من شركات القطاع الخاص لأزمة مالية عميقة، حيث تملك هذه السياسة العديد من الأدوات المباشرة وغير المباشرة أيًّا ما كانت طبيعة سياسة سعر الصرف. ولا خلاف على أنَّ هناك ضُرورة مُلحَّة لتدخل الحكومة والبنك المركزي لإدارة الازمة الحالية ومساندة الشركات والتمهيد لتحقيق التحولات المنشودة في رؤية عُمان 2040، والتي تراهن على وجود شركات القطاع الخاص القادرة على قيادة الدفة في المرحلة المقبلة.

والجدير بالإشارة في هذا السياق، أنَّ هُناك فهمًا مغلوطًا لدى الكثير بأنَّ السياسة النقدية في السلطنة يجب أن تكون مُعطَّلة ودورها محدود للغاية؛ لأنَّها تتبع بشكل مُطلق السياسة النقدية في دولة المثبِّت (الولايات المتحدة الأمريكية). وهذا من وجهة نظري، يُمثل جزءا من الحقيقة، حيث إنَّ واقع الحال في مجال السياسة النقدية بالسلطنة لا يتماشى مع المبدأ الاقتصادي الذي يستوجب التحييد المطلق لاستخدام السياسة النقدية في تحقيق الأهداف الاقتصادية المحلية في حال اتباع سياسة سعر الصرف الثابت لضرورة اتباع السياسة النقدية في دولة المثبِّت؛ حيث إنَّ هذا المبدأ الاقتصادي يشترطُ وجود تماثل وتجانس في الوحدات الاقتصادية في الاقتصادين؛ أي: وجود تأثيرات مُتبادلة بينهما؛ بحيث إنَّ أي تغيرات في الاقتصاد الأول تؤثر في الاقتصاد الثاني والعكس.  وهذا ما يتنافى مع الواقع. ويُمكن الاستدلال على ذلك بملاحظة أنَّه وتاريخيًّا البنك المركزي العُماني يتبع سياسة نقدية (أسعار الفائدة) تختلف نسبيًّا عن السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إيمانا منه بأنَّ ما يناسب الاقتصاد الأمريكي لا يناسب بالضرورة الاقتصاد العماني؛ نظراً للاختلافات الجوهرية فيما بينهما.

فالأول اقتصاد كبير ومتقدِّم، لديه قاعدة إنتاجية قوية ومتنوعة، ويمر بدورة اقتصادية معينة، في حين أن الاقتصاد العماني اقتصاد صغير وفي مرحلة النمو، ولديه مصدر وحيد للدخل مرتبط بعامل خارجي لا يمكن التحكم فيه وهو سعر النفط، ويحتاج إلى آليات وتدخلات معينة في دورته الاقتصادية الحالية قد لا تتناسب مع الدورة الاقتصادية لدولة المثبت في الولايات المتحدة الأمريكية. وتكمُن المساحة التي يُمكن التحكم بها في ظل هذه المحدِّدات بتحديد السقوف المُثلى لأسعار الفوائد؛ بحيث تضمن جاذبية الريال العماني كوعاء ادخاري من جهة، والقدرة على توفير السيولة المحلية بـأسعار فائدة مناسبة لتحفيز النمو والنشاط الاقتصادي.

وإذا ما سلَّمنا بهذه المحددات على أدوات التيسير النوعي، فسيكون المطلوب المزيد من أدوات التيسير الكمي التي يُمكن أن توفر السيولة في هذا التوقيت الحرج، بأسعار فائدة مخفضة؛ حيث يُمكن للسياسة النقدية أن تلعب دور مهمًّا، وتتدخل لمعالجة تداعيات جائحة "كورونا"، وترتيب توفير حزم إنفاذ وتنشيط وأوعية مالية لشركات القطاع الخاص، والتي تمرُّ بأزمة مالية خانقة، استعرضناها في مقالنا السابق؛ وذلك من خلال أدواتها مُباشرة والتي تعمل من خلال وضع قيود مباشرة سعرية (على أسعار الفائدة)، أو كمّية (على بعض أصول البنوك أو التزاماتها أو رؤوس أموالها)، وكذلك القواعد التنظيمية الجزئية والكلية الملزمة للبنوك، والتي من وجهة نظري يجب أن تتغيَّر وتتَّسم بالمرونة والوضوح للتعامل مع التحديات الآنية والمستقبلية. كما أنَّ هناك أدوات غير مُباشرة للسياسة النقدية، تستهدفُ التأثيرَ على حجم السيولة المحلية؛ من خلال آليات العرض والطلب بسوق ما بين البنوك، والتي يصيغها البنك المركزي ويديرها بحكمة وتدخل مدروس لإحداث التأثير المطلوب.

ولتعزيز قدرة القطاع المصرفي على الصمود، واستيعابه للمتغيرات ومتطلبات المرحلة المقبلة، فنودُّ التطرق إلى بعض التحديات التي تُواجه القطاع، سنذكرها ليس بغرض النقد، ولكن بغرض التنبيه إلى أنها لن تعالج نفسها، وإنما يتطلب أمر التعامل معها تدخلات مدروسة بالسياسات المناسبة. فكما هو معلوم أنَّ القطاع المصرفي العُماني يُعتبر هو الأصغر نسبيًّا في المنطقة؛ حيث إنَّ جميع البنوك العُمانية مُجتمعة لا تضاهي بنكا خليجيا واحدا، كما أنَّ هناك تركزا غير صحي في الأصول؛ حيث تمتلك ثلاثة بنوك فقط 75% من أصول كل القطاع، وبنك واحد تزيد حصته على 40% من أصول القطاع المصرفي بأكمله، كما أنَّ هناك بيئة وممارسات غير جاذبة لدخول بنوك أجنبية عملاقة تساعد على جذب الاستثمار الأجنبي، وبما يعزز المنافسة والابتكار. كما أنَّ هناك تباينا كبيرا بين أسعار الفائدة على القروض والودائع، إلى جانب أن نسبة الائتمان المصرفي بفائدة تقل عن مستويات 4.0% لا تتعدي حصتها 5.0% من إجمالي حجم الائتمان الممنوح. والقضية الأهم من وجهة نظري أنَّ الائتمانَ المصرفيَّ والمدخرات يتمُّ توجيه مُعظمها لتقديم تسهيلاتٍ وقروضٍ للحكومة وشركاتها وموظفيها، ولأغراضٍ استهلاكية؛ وذلك على حساب القطاعات الإنتاجية وشركات القطاع الخاص، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي لا تحظى إلا بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 3.5%.

ونتج عن توقُّف الأنشطة الاقتصادية والإغلاق التام جرَّاء الجائحة تعرُّض شركات القطاع الخاص إلى ضغوط مالية ومؤشرات واضحة للإعسار، وما سيتبع ذلك تلقائيًّا هو الإفلاس، وهذا مرض عُضال ومُعدٍ، بشكل كبير حيث إنَّ تعرض عددٍ من الشركات للإفلاس يعني بالنتيجة تعرُّض عدد كبير من المتعاملين معه بتأثيرات مالية كبيرة. وفي السلطنة، هناك عددٌ من المعسرين تزيد محافظهم الإقراضية عن مئات الملايين من البنوك ومؤسسات التمويل، وهذا يعني تعرُّض الجهاز المالي والمصرفي إلى زلزال شديد يضع قدرته على التمويلية على المحك، خاصة وأنَّ قدرة البنوك على قروض خارجية متأثرة بالوضع العام للتصنيف الائتماني المتدني للسلطنة.

والسؤال الأهم: ما الذي يُمكن للسياسة النقدية القيام به لانتشال القطاع الخاص، وتحريك عجلة الإنتاج لخلق فرص العمل؟ ومن وجهة نظري هناك الكثير الذي يمكن القيام به في مجال التيسير الكمي، من خلال حشد طاقات البنوك لتقديم حوافز إنقاذ وقروض طويلة الأجل، بأسعار فائدة متدنية، ومن المهم أن تذهب هذه القروض لمعالجة مشاكل السيولة النقدية للشركات القابلة للاستمرار، وليس المقصود ضخ أموال في شركات متعثرة أساسا قبل أزمة كورونا. وانطلاقا من أنَّ دور السياسة النقدية هو حماية الجهاز المصرفي والإيمان بأنَّ قوة البنوك ومؤسسات التمويل من قوة عملائها من الشركات. تتضمن خطة العمل أن تتحمل البنوك وشركات التمويل مسؤولية توفير تلك الأموال، في حين تُسهم الحكومة بتحمل كلفة الفوائد على تلك القروض، والتي يجب أن تكون منخفضة إلى حدود 2.0% فقط، وحوكمة المعايير والإجراءات المنظمة لها. فالتيسير الكمي تم استخدامه من قبل الدول الصناعية الكبرى في اعقاب الأزمة المالية والعالمية في العام 2008، كما توسع استخدامه مؤخرا من قبل العديد من الدول لمواجهة تداعيات أزمة كورونا.

ويمكن لهذه الإجراءات أن تتحقق إذا ما نجحت الحكومة من خلال علاقتها ودبلوماسيتها في الحصول على فترة سماح لخدمة الديون الخارجية الثنائية لعامين على الأقل، الأمر الذي قد يخفف الضغط على احتياطي النقد الأجنبي؛ بما يوفر حيزا ماليا ضخما لاستخدامه في إجراءات التحفيز الكمي. ويُحسب للبنك المركزي تحركه في التيسير الكمي المناسب، والمطلوب هو المزيد من هذه الإجراءات.

كما يُمكن للبنك المركزي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمُعالجة ضَعْف قُدرة البنوك العمانية على تحمل الخسائر المستقبلية ومواجهة المخاطر المتعلقة بالائتمان والديون، وذلك بعد قيامه بتقييم أوضعها ومتانتها من خلال اختبار الإجهاد؛ ومن هذه الإجراءات: منع البنوك من إجراء توزيعات للأرباح، وإجراء تخفيضات أخرى على نسبة الاحتياطي الإجباري ومرونة في بعض الأسقف والمتطلبات. كما يمكنه مع البنوك إيجاد آلية للاستفادة من حجم الودائع الضخم والمتوفر لدى البنوك (أكثر من 24 مليار ريال عماني)؛ من خلال أدوات وأوعية يستفيد المودعون والجميع من خلالها كصكوك وسندات يُستفاد منها للظروف الطارئة، وتوفير التمويل للتحولات الإنتاجية المنشودة، حيث إنَّ من مصلحة القطاع المصرفي تقديم كل الحلول للبقاء وإنقاذ عملائه، من خلال تمديد آجال قروض الأفراد والشركات بدون تكاليف إضافية، وتجميد دفع الأقساط للأفراد والشركات الأكثر تضررا لبضعة أشهر، بدلا من التشدد المصرفي.

وعلى صعيد السياسة النقدية، يجب أن تعمل على تشجيع وتحفيز سياسة الادخار في المجتمع العماني، وقد يبدو ذلك صعب التحقُّق في ضوء انخفاض أسعار الفائدة على الودائع، وتوجيه المدخرات المحلية للقطاعات الإنتاجية. وفى هذا الصدد، يُمكن أن يُستفاد من ودائع الحكومة وصناديق التقاعد التي تشكل مصدرًا مهمًّا للسيولة لدى البنوك التجارية، كأداة للتأثير على هذه المؤسسات المالية وتشجيعها على ضرورة مراعاة أولويات التنمية الاقتصادية، كما يجب أن يتزامن مع توعوية وتواصل مع أفراد المجتمع ومؤسسات الأعمال في القطاع الخاص ومع موظفي الحكومة لإعداد العدة وتغيير بعض أنماط الاستهلاك والسلوك الاجتماعي، وتوضيح الأدوار المطلوبة من الجميع في المرحلة المقبلة.

وختامًا.. السلطنة على مُفترق طرق مهم، وفي أزمة تختلف عن مثيلاتها السابقة؛ حيث تتضاءل الوفورات والاحتياطيات المالية المتوفرة، والتي ساعدت على امتصاص أثر الأزمات السابقة. وقد يصبح المشهد أكثر تعقيدا في حالة التأخر في البدء بتنفيذ خطة تحول وتحفيز اقتصادي واضحة المعالم تهدف لإعادة هيكلة الاقتصاد العماني وإنعاشه من خلال حزمة من السياسات والتدخلات المدروسة والمتزامنة والمتناسقة. والجميع يعي أننا شُركاء في المسؤولية وشركاء في النجاح. وكلنا في خندق واحد: البنوك والشركات والحكومة وأفراد المجتمع. وبلا شك، أنَّ تقاذف المسؤوليات والمبررات لن يعالج المشكلات الآنية والمستقبلية وتبقى القراءة المختلفة للواقع الجديد والتجديد والابتكار في أدوات وآليات التعامل معها هي السبيل الأمثل.