سلامٌ لبيروت من مسقط العروبة

حمد بن سالم العلوي

لَقَد تَمَادى المَاكِرون بالغدر بك يا بيروت، لكننا نعلم أنَّك أكبر من غدرهم ومكرهم، ونعلم أنهم يغيظهم منعتك وكبرياؤك في وجه الأعداء، أكانوا عملاء من الداخل، أو أعداء من الخارج، وإنه ليضيرهم أن يروا الوطنيين الأحرار يديرون شؤونك بقوة وصلابة، وذلك رغم تبعثر الطوائف والأحزاب، وطاعتهم العمياء لمن يدفع لهم أكثر بالدولارات الفاسدة، ويُبدون استعداداً أكثر للطاعة من أجل إرخاء سورك العالي أمام الصهاينة، وإن صهاينة العرب أصبحوا أكثر مضاضة على الأمة من الأعداء المعلنين صراحة، ولكن مهما مكروا فمكر الله فوق مكرهم جميعاً.

لقد اغتالوا رفيق الحريري ليخرجوا سوريا من لبنان؛ فما كانت المسألة سهلة عليهم ونصف الشعب يطالب ببقائها، إلا بفاجعة عظيمة كقتل شخص بحجم رفيق الحريري، وكان هدف الأعداء الاستفراد بالمقاومة اللبنانية كونها ضد إسرائيل، فبعملهم فقط عرقلوا المسار، ولكن لم يفلحوا في تحقيق الهدف الأكبر، وهو تصفية المقاومة، ذلك رغم جسامة الأضحية ومقدارها الكبير، وظل لبنان أكبر من الأشخاص وسيظل كذلك، وتدمير مرفأ بيروت الذي شل نصف بيروت المدينة الجميلة، ولا يزال، الهدف هو الهدف السابق، هزيمة المقاومة لأجل راحة إسرائيل، كم أنتم تضحون أيها العرب من أجل إرضاء عدوكم اللدود؟!!

لقد زرع الغرب مرضًا عُضالا في المنطقة العربية لشرذمتها، ومع ذلك فلن يُفلحوا في تحقيق أهدافهم، طالما ظل هناك من يعرف قيمة الأوطان، ويعرف أن قيمتها توزن بدم الشرفاء وأرواحهم، وليس بالدولار كما هو شأن بعض الفجار، وبطبيعة الحال هذا المرض العضال الذي زرع في قلب الأمة، ليس إسرائيل ذاتها، وإنما هم يمثلون البساط الأحمر الذي سارت عليه الدولة الصهيونية إلى فلسطين، وكذلك تعهدهم بالبقاء عليها؛ لذلك فإن المخططات ستظل تُرسم في الخارج من أجل إضعاف الأمة، والعمل على شرذمتها، لكي تعيش إسرائيل في أمن وأمان، وللقضاء على الإسلام من الداخل، بخلق الذرائع التي تشوِّه الأمة الإسلامية، ومعها الأمة العربية كونها حاضنة للإسلام، وقد أُنجز الكثير والكثير من هذا المخطط، وأصبح الإسلام قرين بالإرهاب، والأمة العربية قرينة بالتخلف.

... إنَّ هذا المخطط الرهيب احتاج إلى عقود وعقود من السنين حتى أُنضج بهذا الشكل المريع، لكنه قد بلغ الذروة "الآن" وليس بعد الذروة إلا الخمود والانكفاء.. ثم الزوال، وما سيساعد على زواله الآن! انكشاف حجم المخطط الخبيث، فما عاد يستحمل اللعب من تحت الطاولة، كما كان في العقود الماضية، وربما غاب عن الغرب -ورغم الدهاء والخبث- أن الإنسان العربي عنصر عجول بطبعه، ولهذه الأسباب قد استعجل النتائج، أو أن ترامب بضعف إدارته ظن أن الكل أصبح جاهزاً لرفع الستار عن المسرحية الطويلة، وأرادوا إنجازاً سريعاً مبهراً؛ لذلك أمرهم بتسريع ما سُمِّي بـ"صفقة ترامب" ولكن استعصى الأمر على الجميع، وذلك في ظل وجود محور المقاومة "القوي".

لذلك؛ قتل الفريق قاسم سليماني لقطع يد إيران، وهي عضو مهم في محور المقاومة، وأصدر قانون "قيصر" لمحاصرة سوريا وعزلها، بعد الاعتراف بفشل تدميرها، ودُمِّر مرفأ بيروت لإحداث الوقيعة في لبنان، وعزل حزب الله اللبناني وهو فاعل رئيسي في محور المقاومة، وبدأتْ مزامير إسرائيل تنطلق من دول خليجية، وقد أصبحتْ عمالتها لإسرائيل مكشوفة، ولا تُخفي تخندقها مع إسرائيل، وأخذت توجِّه الاتهام إلى حزب الله بمجرد أن حصل التفجير، وقبل حتى أن يُشكَّل فريق للتحقيق في الحادث المهول، حتى إنهم بدأوا بنشر أغانٍ وتغريدات تهيِّئ للحدث؛ وذلك قبل التفجير بأيام قليلة، وكذلك رُسُومات كاريكاتيرية للأمين العام لحزب الله اللبناني تُنَاسب الحدث، وتُظهِر شماتة مُقزِّزة بعربي مسلم؛ فماذا يفعلون وهم يطبِّقون المقولة عدو صديق عدوك؟!

إنَّ بعض اللبنانيين الذين هلَّلوا للزيارة العاجلة للرئيس الفرنسي لبيروت، نقول لهم لا تفرحوا كثيراً فهذه الزيارة -كما يقول الخبراء- ليست للأخذ بخَوَاطركم وجبر الضرر، وليست أيضاً للتسريع في إعادة احتلال لبنان من جديد كما طالب البعض، وإنما لحجز لبنان من الذهاب شرقاً تجاه الصين وروسيا، فجائحة كورونا نبَّهتهم إلى ذلك. أما مسألة التعمير والتعويض فلن تتم قريباً؛ فهي مجرد قعقعة إعلامية لا تُنتِج طحيناً، فالمخطط يضمُّ شيئًا اسمه "حرب أهلية" بحيث يُدمِّر لبنان نفسه بنفسه، والهدف إزالة حزب الله من الجنوب، أو حتى إضعافه أمام إسرائيل؛ لأن الغرب مُمكن له أن يطيق تهديداً لأوروبا كلها، لكنه لا يستحمل أن يرى إسرائيل في خطر، وهي من تكفَّلت أمامهم بتدمير الأمتين العربية والإسلامية معاً؛ فلأنه وبكل بساطة ممنوع قيام نهضة للعرب منعاً مطلقاً، فتجعلهم يستغنون عن الغرب؛ وبالتالي سيوقف نهب ثرواتهم، فحال الوطن العربي من حال القارة الإفريقية، فهما خزائن الغرب التي لا تنضب.

إنَّ بيروت التي كانت وما زالت منارة للعلم والمعرفة، تُعتبر في نظر الغرب قد أجرمت، وأنها يجب أن تُعاقب كما عُوقب قبلها بغداد ودمشق والقاهرة؛ فهذه المشاعل لا بد أن تُطفأ وتُخمد إلى الأبد، فهذا التأثير الثقافي والمعرفي، قد رأينا صداه هنا في مسقط؛ فبمجرد تناقلت وكالات الأنباء خبر "انفجار يوم القيامة" في مرفأ بيروت، اشتعل ألم الحزن في مسقط، وكل العواصم الشريفة؛ فأنبرى الكُتَّاب لكتابة المقالات المُعزِّية، والمندِّدة بالجريمة، وأضاءت قريحة الشعراء بالقصائد المواسية بهذا الحدث الجلل، وصار الموضوع حديث المجالس والمنتديات والمنصات الاجتماعية.

لقد فرحنا لوحدة الصف عندما رأينا الشباب من الشعب اللبناني، يُنشِئون الفرق لمساعدة الناس، وتنظيف بيروت من آثار الكارثة؛ فرأينا فيهم هِمَّة الشعب العُماني في كارثة الإعصار عام 2007م يوم مرَّ علينا "جونو" بلا رحمة، فامتنعت عُمان عن قبول المساعدات الخارجية، وهبَّ الناس صغارهم وكبارهم، فكنسوا آثار عدوان جون، ولكن يا بيروت ما الذي غيَّر وِجهَة المحسنين، من السعي في الخير إلى عكسه تماماً؟!! وتوجُّههم ضد الوطن يعدُّ انقلاباً على الأمر الطبعي!! فالأمر غير الطبيعي التحول إلى المظاهرات والتخريب!! وحتى قتل أحد رجال الأمن أمر مرفوض، واحتلال الوزارات والمؤسسات العامة أيضاً أمر مرفوض ومستنكر، ما هكذا ترد الإبل في مثل هذه الظروف يا بيروت؟! إذن؛ لن يُنجِّيكم تحريض الخارج، ولا زعماء الطوائف من هذه المصيبة، إلا بالوحدة الوطنية، والترفع عن الصغائر، والابتعاد عن المصالح الضيقة.

أنسيتم يوم اختلفتم وذهبت ريحكم عام 1975م، فإنْ ظننتم أنَّ فئة ستُقصي أخرى، فأنتم واهمون واهمون بلا جدال، بل الجميع سيخرج خاسراً، ولن يخرجكم من هذا المأزق الذي صنعه الأعداء لكم، وذلك بمعاونة الفاسدين في الداخل، لن تُخرجكم إلا وحدتكم الوطنية، ورصكم للصفوف، وإن العالم يشم رائحة فساد نتنة تهب من لبنان، وتمجيد أعداء، وهدر حق أصدقاء صادقين معكم فهذه مضيعة للوطن، وهناك من يدعوكم إلى العدل في الظاهر، وفي بلاده لا يعترف بالعدل، ويزعم أنه سيساعد بالتعويض، وهو في واقع الحال مفلس، أو في طريقه للإفلاس، وإن أمواله -ونقولها اصطلاحاً بأمواله- ليس حرًّا فيها، نقول لكم من مسقط الخير والعروبة، وحِّدوا صفوفكم من أجل وطنكم لبنان، ومن أجل الإنسان اللبناني، ففي وحدتكم نجاتكم، واعبدوا الله كل بطريقته كما جرت العادة عندكم، وأغلقوا الأبواب أمام الشر وهو آتيكم من الخارج بلا شك، واعتصموا بحبل لله المتين.