يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
بيروت لاتحب الراحة، وحالمة كأنها لا تريد أن تفيق، من كابوس عين الرمانة مرورا بعشرات الكوابيس، ولم تفِق، حتى صاعقة اغتيال رفيق الحريري، ذهبت بكابوس، وأتت بآخر، كأنها أقسمت ألا تفيق!
أحيانا أشعر بأنها وكأنها تصرخ: "إنني أعطيت ما استبقيت شيّئا"(1)، كأن ما يجري خارج عن إرادتها، عن مبادئها، عن قداستها في قلوب محبيها وعشاق باريس الشرق!
من حزب إلى حزب، وشوارع تزدحم بحركات ثورية وقومية واشتراكية وكل أشكال السياسة ومنتمي السياسة، تجر خيبة وراء خيبة، تعيش عصرا ليس لها، ولايعرفها، ولم بتشرف بمصافحتها يوما!
بيروت الحقيقية هي الشعر والأدب والتاريخ والمطابع والمكتبات، والإفطار اللبناني اللذيذ، والروائح الزكية، والأناقة، والجامعة الأمريكية، وجلسة الأحبة على كراسي مقهى عتيق يطل على شاطئها اللازوردي..
بيروت ليست مدينة عادية يتم تجاوزها بسهولة، إنها ربما كانت أهم مدينة عربية قبل عقود، وقتذاك كانت الأنظار دوما تتجه إلى المدينة العريقة التاريخية التي كانت في قديم الزمان هي بيريتوس (/bəˈraɪtəs/) (باللاتينية: Berytus)، هي مدينة رومانية كانت تقع في موقع مدينة بيروت الحالية والتي كانت مركز الوجود الروماني في شواطئ البحر المتوسط الشرقية جنوب الأناضول، وكانت عاصمة فينيقيا خلال العصر الروماني، ومن مظاهرها التاريخية أنها كانت المدينة الوحيدة الناطقة باللاتينية بالكامل في منطقة سوريا- فينيقيا حتى القرن الرابع.
اشتهرت مدرسة الحقوق في بيروت لبريتوس في العصور القديمة؛ حيث تم إنشاء كودكس يوستنيانوس أحد أجزاء قانون جستنيان الذي أمر به جستنيان الأول في أوائل القرن السادس الميلادي وكتب بالكامل باللغة اللاتينية في مدرسة القانون (2).
المستشرق الأوكراني أغاتانغل كريمسكي الذي زار بيروت ومكث فيها سنتين (1896- 1898) تأثر كثيرا ببيروت ومنها بدأت وتشكلت تجربته الشعرية، عبر 4 مجموعات صغيرة، كَتَب ثلاثاً منها في لبنان، هي: "على جبال لبنان"، و"وحيد في غربتي"، و"حبٌّ آثم"، شكّلت صلب ديوانه الأول. وعلى الرغم من أنّه كانت لديه محاولات شعرية قبل رحلته اللبنانية، إلا أنّه مدين لبيروت بولادته كشاعر (3)، وفي صورة من صور تأثره ببيروت أنه أضاف رموزًا محليّة لبنانية في ديوانه، ويظهر ذلك في مجموعة حبّ آثم، مثلًا حين تشبيه قامة الحبيب بشجرة أرز:
قامته مثل أرزة
وصدره نحاسي
إن رأته فتاة
فلن يهدأ لها بالٌ أبدًا. (4)
بالطبع لو ننسى أننا إن أتينا للشعر وبيروت لن نتجاوز الرحابنه وسعيد عقل ووديع الصافي وجبران والأخطل الصغير وغيرهم، وبالتأكيد لن أستطيع إنهاء الكتابة دون تذكر أيقونة لبنان فيروز، لكني تذرعت بالأوكراني كونه منطقيا وليد تأثراتها.
نزار قباني شاعر المرأة الأشهر، أيضا، كتب عن بيروت وتجلت كلماته عنها لأنها استثنائية في كل شيء، ففي قصيدته أو قطعته الشعرية الرائعة "بيروت والحب والمطر" كتب:
ليس للحب ببيروت خرائط
لا ولا للعشق في صدري خرائط
فابحثي عن شقة يطمرها الرمل
ابحثي عن فندق لا يسأل العشاق عن أسمائهم
سهريني في السراديب التي ليس بها
غير مغن وبيان
قرري أنت إلى أين.. (5)
بيروت لما يُكتب عنها فلأنها ليست بالمدينة التي يتم تجاوزها، أو تجاهلها، لذلك استهدفت منذ القرن الماضي من كثير من قوى الشر، وأصبحت أيقونة للثورات حتى غير اللبنانية، لا ننسى المنظمات الفلسطينية في سبيعنيات القرن الماضي وما حدث حينذاك بعد حادثة حافلة عين الرمانة، وبعدها الوجود السوري المثير للجدل، ورحيل السوريين بعد فاجعة اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005م. ومن ثم وعلى طريقة كأنك "يا أبو زيد ما غزيت" قوي نفوذ "حزب الله" المدعوم من الخارج، وسيطر على مراكز القرار في لبنان خاصة بعد أحداث 2008م، وما تزال مؤثراته تتكالب على هذا البلد الجميل.
ثم حصل بالأمس هذا الانفجار الكبير في المرفأ، وبعيدا عن اتهام هذا أو ذاك، إنما ومن خلال تتبع الأخبار حول الحدث المؤلم ثبت وجود 2750 طناً من نترات الأمونيوم هي التي انفجرت بالمرفأ. وصرح بشأنها رئيس الوزراء اللبناني وقال: "من غير المقبول وجود شحنة 2750 طناً من نترات الأمونيوم منذ ست سنوات في مستودع، دون اتخاذ إجراءات وقائية".
وهنا أترك الاحتمالات للقارئ، لأنه لا يمكن لأي جهات أمنية في بلد محكوم أن تترك مثل هذا الخطر في مستودعات سهل الوصول لها وفي منطقة لا تخلو من الناس، نظرا لخطورتها الشديدة، لذا ننتظر نتيجة التحقيق الذي سيكشف الأمور.
رحم الله الشهداء.. وشفى الجرحى.. وحفظ بيروت السلام من كل شر.
_______________________________________
- من قصيدة الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي
- منقول بتصرف
- من مقال نشر في جريدة المدن الإلكترونية (بيروت- لبنان) بعنوان: حفيف سعف نخيل.. بيروت في أشعار كريمسكي، عماد الدين رائف، الثلاثاء 2019/12/10.
- نفس المصدر السابق.