عفو السلاطين.. يجُب ما قبله

علي بن سالم كفيتان

لن نُبالغ إذا قلنا بأن سلاطين عُمان، ومنذ تأسست الدولة البوسعيدية في العام 1744 علي يد المؤسس أحمد بن سعيد -رحمه الله- كانوا يؤثرون العفو والصفح على التنكيل والانتقام؛ فمنذ 276 سنة صار هذا ديدنهم وسر محبة الناس لهم؛ لأن الصفح أمر لا يمنحه إلا الواثق المتزن الذي يُراهن على بقاء روابط الحب والولاء بين الحاكم والمحكوم؛ فمهما عَظُم الذنب يظل عفو السلاطين قائماً في عُمان فيما لا يُغضب الله، ولا ينال من حقوق الآخرين. قال لي ذات مرة رجل عربي التقيتُه بالصدفة في كندا عام 2000، بأحد المطاعم، وكان يُكلمني عن وطنه وأسرته بحرقة، وعندما ذكر أمه انهالت الدموع، فقلت له: ولماذا لا تعود؟ أجابني بعفوية ودون تفكير قائلاً: يا بُني، نحن لا نملك سلاطين عُمان!

وقد كُنَّا على الموعد مع العفو في الثالث والعشرين من يوليو هذا العام؛ حيث آثر سلطان البلاد المفدى -أيده الله- أن يضم جميع أبنائه في الخارج، ويبسط عليهم رداء عفوه ومحبته، وراقبنا الحدث كعُمانيين مُحبِّين لعُمان، فخورين بالسلطان، فأزال العفو بعض ما تبقى من مرارات الفقد لأبينا الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- فهو صاحب المقولة المشهورة عندما تولى الحكم قبل نصف قرن؛ حيث قال رحمه الله: "عفا الله عما سلف"؛ فكان عفوه صفحة بيضاء ناصعة، طهر بها سخائم الأنفس الجريحة، وداوى بها وطنا ينزف؛ فكانت هي بوابة التعايش ومفتاح العدالة الانتقالية التي يتغنَّى بها البعض اليوم وكأنها وليدة الأمس. لذلك؛ يحق لنا أنْ نفخر بأنَّ سلاطين عُمان لا يقيمون ملكهم على الدم ولا الحقد، بل على سجادة العفو والصفح والوئام.

العُمانيون أمة حية تقبل الآخر، وتفرد له بساط الطيب والود، وتمنحه الفرصة الكاملة ليصطبغ بروح التسامح الطاغي في كل ربوعها، وله الحق في حمل هُويتها الثقافية العظيمة وعباءتها السياسية المتزنة؛ لذلك لا عجب ولا غرابة أن تجد في عُمان كل الألسن وكل الثقافات تذوب لتكون لنا الإنسان العُماني على مر العصور؛ فالأمة العُمانية لم تقصِ أحداً استنادًا لموطنه الأصلي أو مسقط رأسه أو هويته السياسية؛ لذلك نحن اليوم نشكل خليطا من الشعوب، وهذه هي صفة الأمم الحية القابلة للاستمرار؛ فحجر الوطنية على أساس العرق أو المذهب أو الرقعة الجغرافية أصبح من أسباب زوال الدول؛ لذلك ترك العُمانيون كل ذلك جانباً لكي تستمر رسالتهم الخالدة، ويظل تأثيرهم الثقافي صفحة من صفحات التاريخ البشري.

فقد عفوت بالأمس القريب يا سيدي عن أبنائك في الخارج، وعادت الطيور المهاجرة إلى أعشاشها.. لقد تابعنا ذلك بفخر، فكم أسعدنا الثقة بالعفو السامي ممن كانوا في الشتات وعودتهم سريعاً وهم يبتسمون على الطائرة الخاصة إلى عُمان الوطن الرحب الفسيح، وكم أثلج صدورنا دخلتهم على أبنائهم وأسرهم وأيادي أهاليهم التي رفعوها لله أن يحميك ويوفقك لفعل الخير وبث الطمأنينة في كل شبر من هذه البلاد.. فقد سمعنا الثناء ووصلتنا رسائل المحبة والولاء لجلالتكم، وطلب منا الكثيرون التعبير عمَّا يجيش في خواطرهم تجاه الوطن والسلطان، فاجتهدنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

ولكي أكون قلماً صادقاً، فقد تنفس هذا العفو وفتح نوافذ كرم جلالتكم المشرعة، فهب منها هواء عليل على من غرر بهم يوماً، واستطاع الوطن أن يسترجعهم من براثن الغلو وساحات الفتن، ليودعهم دار الإصلاح ويحفظهم من الذهاب بعيدا في تلك الساحات الملوثة بدماء الأبرياء، وحسب ما رشح إلينا عبر أهاليهم، فهم يرفعون لمقامكم السامي الكريم رسائل الشفاعة بالعفو عنهم، ومنحهم فرصة للتعبير عن حبهم لعُمان ومقام جلالتكم أيدكم الله، فقد استبشر أبناؤهم وأسرهم خيراً بنسمات عفوكم السامي التي داعبت أحلام الصغار المنتظرين على مفازات الطرق لعودة آبائهم، ولامست وجوهَ أمهاتهم الطاعنات في العمر عسى أن يحظين بوداع قبل الفراق الأبدي.