دارين مهدي جعفر.. عاشقة البيئة والحياة

 

عبد النبي العكري *

جَاءَ الخبرُ على صفحة الصَّديق محمد الشحري صادما: "وفاة الناشطة البيئية دارين مهدي جعفر"، وأتبع ذلك بالقول: "غير مُصدِّق"، وفعلا الخبر صادم ومفاجئ. وأنا أقرأ الخبر مِرَارا تتالت إلى ذاكرتي صُوَر لقاءاتي مع الراحلة دارين بصحبة أبيها صديق العمر الدكتور مهدي جعفر؛ سواء في عمان أو في البحرين.

كان أول ما تبادر إلى ذهني تعزية والدها صديق العمر أبو طفول، رغم معرفتي بالصدمة التي يُعانيها، لكني وجدته رابطَ الجأش مُسلِّما بقدر الله وإرادته، ثم كتبتُ تغريدة رثاء وإشادة بالراحلة التي أضاءتْ سماء عُمان كالنجمة البارقة. لقد فاتني أنني لم أتعرف عليها بما فيه الكفاية؛ لذلك وجدتني أبحث في محرك البحث عبر وسائط التواصل الاجتماعي والإعلام العماني لأفاجأ أن الشابة دارين أنجزتْ خلال حياتها القصيرة ما يُثير الدهشة والإعجاب. لقد كتبت قبل أيام من وفاتها أنها كانت تأمل أن يكون العام 2020 مليئا بالعمل البيئي في ضوء الزخم الذي اكتسبه في العام 2019، لكن وباء "كوفيد 19" أحبط ذلك. وتضيف لقد صفر "كوفيد" العداد، ووضع الجميع في موقف صعب، والذى علينا أن نقبل تحدِّي العمل في ظروف استثنائية.

ورغم أن الشائع عنها نشاطها في مجال البيئة، والتي ارتبطت بها منذ سنوات الدراسة الجامعية، وبتأثير من والدها وهو من أهم رواد وخبراء وناشطي البيئة، ومن مؤسسي الجمعية العمانية للبيئة وقادتها منذ التاسيس في العام 2004، فإن لها اهتمامات أخرى مثل الاستكشاف والسفر والفن الموسيقي والغنائي.كما أن لها آراء عميقة وجريئة في علاقة الفرد بالمجتمع.لكن السمة المميزة لها والتي لا يمكن أن تُنسى ابتسامتها الآسرة التي لا تُفارق محياها وتشيع الأمل لدى كل من يلتقيها ويحيط بها ويعمل معها؛ مما يعطيهم حافزا بالأمل وتخطي الصعاب. كما لا تخطئ العين حبها للورود حيث إن لها أكثر من صورة وهي تحمل باقة ورد.كذلك فإن معظم صورها وتسجيلات الفيديو تظهرها في أحضان الطبيعة العمانية في البحار والشواطئ والسهول والجبال والصحاري، ضمن حملات بيئية أو منهمكة في ندوات ومحاضرات توعوية لمختلف الفئات للتوعية بالبيئة أو في مؤتمر وفعاليات حول البيئة؛ فالبيئة شغفها وحياتها.

 

الناشطه البيئية

مِنَ الصَّعب الإحاطة في هذ المقال بأبعاد حياة دارين في ارتباطها بالبيئة وقضايا المجتمع واهماماتها، ولكنني سأتطرق إلى ومضات من حياتها التي كرَّستها للبيئة والحياة. تؤكد دارين في أحاديثها أنها تاثرت وهي في الجامعة بأبيها الدكتو مهدي جعفر الناشط والمتطوع والرائد في مجال البيئة، ومن أهم خبراء البيئة ليس في عُمان فقط بل في الوطن العربي والعالم. وهو من المؤسسين للجمعية العمانية للبيئة، ومن أبرز قادتها منذ تأسيسها في 2004.كما أنه من قيادات وزارة البيئة قبل أن يتقاعد، ومثل عمان لدى مؤسسات الأمم المتحدة المختصة بالبيئة، وكان محاضرا في جامعة السلطان قابوس حول مواضيع البيئة. وتؤكد دارين أن أباها لم يجبرها على الاهتمام بالبيئة، لكنه فتح لها الآفاق، وترك له الخيار والقناعة الخاصة وعلاقاتهما تتسم بالصداقة والثقى. من هنا، فقد اختارت دارين تخصص الأحياء، وكان موضوع التخرج متعلقا بالبيئة، وكذلك تخصص دراسة الماجستير حول البيئة. وتذكر دارين أنها رتبت وهي طالبة في جامعة السلطان قابوس قيام الجمعية العمانية للبيئة بعمل ورش توعية حول البيئة لطلاب الجامعة. ومن هناك، انطلقت في العمل التطوعي للجمعيه كعضو نشيط، وتتقدم في تحمل المسؤليات والمهام والبرامج، حتى أضحت عضو مجلس الإدارة ومسؤلة عن قطاع الطلاب والشباب.

لكن مما يلفت الانتباه من خلال المقابلات معها، أن الاهتمام بالبيئة والمحافظه عليها وإصلاح الأضرار الجسيمة التي تلحق بها، أنها تعتبر ذلك تكليفا إلهيا، فيتوجب على الإنسان الذي استخلف في الأرض أن يحافظ عليها، بل أن يسلمها لمن بعده بحالة أفضل مما استلمها. كما تؤكد أن البيئة هي للجميع، فتدهورها يضر بالجميع، وسلامتها تفيد الجميع. فهي إذن تنطلق في التزامها بالبيئة من منطلق إيماني و أخلاقي.

رُؤية دارين للبيئة شاملة؛ فهي تؤثر على نوعية الحياة، بل إنَّ استدامة الحياة البشرية مرتبطة باستدامه البيئة. كذلك، فإن جميع قطاعات الحياة كالزراعة والصناعة والسياحة والصحة، والتعليم، وكل نشاط إنساني سلبا أو إيجابا مرتبط بالبيئة، ويؤثر عليها والعكس صحيح. والبيئة هي من مسؤلية الجميع، الدولة والمجتمع والقطاع الخاص والأفراد ومؤسسات التعليم والتدريب وغيرها؛ حيث يجب أن تتضافر وتتكامل الجهود في إستراتيجية موحدة لصيانة البيئة واستدامتها. كما أن البيئة هي قضية الأرض وما في باطنها وعليها وما فوقها، في البر والبحر والسماء، لذلك لابد أن يكون هناك نظام بيئي عالمي، ويتوجب على عُمان وسائر الدول أن تنخرط بفاعلية في نظام بيئي كوني مستدام، وهو ما تتبناه الأمم المتحدة.

عَرَضت دارين تكرارا لظاهرة غياب الوعي في المجتمع لمخاطر الإضرار بالبيئة والسلوكيات الفردية والجماعية المضرة بالبيئة وتلويثها؛ ومنهاظم رمي النفايات في الطرقات والأماكن العامة ورمي الكميات الهائلة من مُخلفات البلاستيك والتي تلوث البحار والشوطئ، وترك المخلفات في الغابات وتلويث الأجواء بانباعاثات المحركات والمحروقات...وغيرها الكثير من الممارسات الضارة بالبيئة. وتشدد دارين أنه إلى جانب التشريعات والعقوبات الرادعة للمخالفين، فإن الأولوية هي لإشاعة الوعي والثقافه البيئية. لهذا؛ يتوجب الانطلاق من المدارس والجامعات لخلق وعي بيئي وتكريس عادات بيئية صحية، إلى جانب دور الأسرة و الإعلام ومنظمات المجتمع في ذلك، إلى جانب وضع البيئة في صلب جميع سياسات الدولة وتطبيقاتها.

من هنا.. فإن من اهتمامات ومسؤوليَّات دارين في الجمعية إشرافها على مسابقات الخطاب البيئي والتي تجرى سنويا في الجامعات والكليات الجامعية في سلطنه عُمان لتـأهيل الفائزين للمسابقة العالمية، والتي تجرى في دبي سنويا، وقد حصلت عُمان على المركز الأول عربيا في العام 2017 رغم حداثتها بالمسابقه.. كما أنها تشرف على برنامج ومسابقات صيفكم بيئة لطلاب المرحلة الثانوية.

 

شخصية مستقلة

في العديد من حواراتها، تطرح دارين قضية فكرية ووجودية؛ وهي دور الإنسان في الحياة والوجود.. وتقول دارين إن دور الإنسان ليس العيش في روتين أن يصحو ويفطر ويذهب للعمل ثم يرجع للبيت ويتغدى ثم يقوم ببعض الواجبات الاجتماعية أو المجتمعية، ثم يعود للبيت ليتعشى ثم ينام.. وهكذا ضمن روتين الحياة اليومي .كما يتوجب عليه أن لايحصر حياته في التعليم ثم العمل فالزواج والإنجاب وهكذا مع أهميتها. على الإنسان أن يدرك أنه يملك قدرات وطاقات لايستهان بها، وأن عقلنا أكبر مما نتخيل، وعلينا التمعن دائما، وتشغيل عقولنا، وأن نتصدى للمشاكل والتحديات بالإبداع والعمل الفردي والجماعي. تطرح دارين أيضا قضايا إشكالية مثل الاستقلالية في خيارات الإنسان الخاصه به؛ مثل التعليم والتخصص والمهنة والزواج والصداقات والاهتمامات. وفي ذات الوقت، فإن هناك أنماطا من السلوكيات الاجتماعية التي يتوجب مراعاتها ما دام الإنسان كائن اجتماعي يتوجب عليه العيش مع الآخرين، وتسيير الحياة وإدارة المجتمع وصيانة البيئة معهم. وبالنسبة لتجربتها العائلية، فهي تؤكد أنها تربت في عائله ترعاها وتدعمها، لكنها تترك لها خيارات واسعة، ولذا فالعلاقات العائليه حميمية وغير قسرية. وتؤكد دارين على قضيه مهمة وهي ضرورة عدم لوم النفس وتبكيتها لأخطاء ارتُكبت أو فرص ضاعت أو انتكاسات حدثت؛ فالحياة تجارب. وتشير إلى تجربة حرمانها من وظيفة تقدمت لها ونجحت في امتحان القبول، لكنها حُرمت منها بسب خلل صحي لا يؤثر على أدائها لعملها. وتقول إنها ظفرت بعمل أفضل منه بسبب إصرارها ومثابرتها، وهو العمل في حديقة النباتات العمانية المكرسة للاستزراع النباتي البيئي. وهنا تدعو إلى ضرورة ضمان الفرص المتكافئة في العمل والترقي في القطاعين العام والخاص لأصحاب العوارض الصحية والاحتياجات الخاصة.

حب السفر

كانت دارين محبة للسفر والعيش مع الطبيعة واكتشاف تضاريس الأرض والحياة والبشر. إن ذلك جزء من حبها للحياة والاكتشاف والمغامرة.

 

حب الفن والموسيقى

معروف عن دارين حبها للموسيقى والغناء الراقي وإعجابها بفنانين متميزين، وبشكل خاص فإنها عضو نشط من مجموعة المعجبين بالفنان خالد الشيخ، والذين يتابعون ويروجون لإنتاجه الفني. وبالفعل فقد حضرت إلى البحرين في 2019 برفقه أبيها أبوطفول لحضور حفل التكريم والاحتفاء بالفنان خالد الشيخ من قبل الهيئة العامة للثقافة والآثار برعاية وحضور رئيستها الشيخة مي بنت محمد الخليفة، وكان حفلا بانوراميًّا رائعا لإبداعات الفنان خالد الشيخ، كما كان لها حضور أيضا في استضافه الفنان خالد الشيخ في مسقط في 2019.

 

حديث ذو شجون

وأنا أسترجع حياة دارين، خطر لي استحضار حياه الناشطة البيئية السويدية جريتا تونبرج المولودة في 3 يناير 2003 في أستوكهولم، والتي أضحت وهي في الثامنة عشرة من عمرها أهم شخصية بيئية عالمية؛ وذلك في بضع سنوات بعدما أقدمت على الامتناع عن الدراسة، واعتصمت أمام البرلمان السويدي في 20 أغسطس حتى 9 سبتمبر 2018 احتجاجا على التقصير في مكافحة التغير المناخي وتدهور البيئة، وأطلقت بذلك حركة احتجاجات طلابية عالمية ضد التقصير العالمي في مواجهة الاحتباس الحراري وتدهور البيئة. وانطلقتْ من ذلك إلى أهم التظاهرات والمنتديات العالمية جنبا إلى جنب مع قادة الدول والمنظمات القارية والدولية؛ بحيث أضحت أيقونة عالمية للمدافعين عن البيئة وصوت الضمير الإنساني المطالب بإنقاذ كوكب الأرض.

وتستدعي مُقارنه الناشطتين البيئيتين جريتا ودارين للتفكر في تكريم وتقدير الغرب لجريتا وتجاهل العرب لدارين، والتي كرست حياتها لقضية الدفاع عن البيئة. بالطبع فإن تكريم جريتا ظاهرة إيجابية، والجيد أن جريتا لم تغتر بالشهرة ولم تستدرج للأضواء في منظومة السيطرة، لكن المطلوب شيء من الإنصاف والتقدير والتبني لدارين وأمثالها، وتمكينهم من إيصال صوت المجتمع العربي في المحافل الدولية للبيئة، وتكريمهم وهم أحياء قبل أن يرحلوا ونتحسر على تقصيرنا تجاههم.

* كاتب بحريني