وداعًا دارين.. إلى جنة الخلد

علي بن سالم كفيتان

لا تزال ابتسامة دارين ترتسم في الأفق حاملتا معها باقة زهور من الدنيا ذاهبة إلى الجنة، هذا هو المشهد الذي ظل في مخيلتي منذ علمت بوفاتها المفاجأة من حساب الكاتب محمد الشحري على فيسبوك.

التقيتُ بدارين عندما كانت صغيرة مع أبيها وأسرتها في آخر تسعينيات القرن الماضي بصلالة، فقد كان حينها والدها الدكتور مهدي جعفر أحد قيادات العمل البيئي في وزارة البلديات الإقليمية والبيئة وموارد المياه (آنذاك)، وكبرت تلك الزهرة وأصبحت شابة يافعة والتقينا مجددا في جميع المناسبات البيئية، ومن ضمنها المؤتمر الدولي للبان والنباتات الطبية الذي عقد عام 2018 في رحاب جامعة السلطان قابوس، وكعادتها تكون ملازمة لرجل تحبه ويحبها، إنه أبو طفول أطال الله في عمره وصبره على فراقها، فهو والدها وصديقها معا. ولا يزال المشهد يحضرني عندما اعتلى الدكتور مهدي المنصة لإلقاء ورقة عمل يشارك بها في المؤتمر، فيما كانت النحلة دارين تروح ذهابا وإيابا بين المسرح والمنصة لكي يكون ظهور أبيها مشرفا، وهو كذلك أينما حل فإذا اعتلى المنصة مهما كان الحضور ومهما كانت المناسبة سيجذب ذلك الرجل الوقور الجميع وستجدهم منصتين. في ذلك اليوم كان يلقى ورقة عمل نيابة عن الدكتور محسن العامري الذي كان يقضي آخر أيامه راقدا في أحد مستشفيات تايلند قبل وفاته رحمه الله.

التقينا بدارين مجددا برفقة أبيها في منتدى عمان البيئي 2019 وكانت ابتسامتها- رحمها الله- حاضرة لم تتغير أبدا، لديها همّ واحد وهو حماية الطبيعة وصون كل مشهد جميل في هذا الوطن؛ حيث كانت تعمل بجد وتفانٍ من أجل ذلك، من خلال جهدها المخلص والدؤوب في حديقة الأشجار والنباتات العمانية، فقد كانت تناقش الأمور بهدوء وتستمع أكثر مما تتكلم. أذكر انها كانت متحمسة في ذلك النهار للاستماع إلى ورقة عملي التي ألقيتُها في ذلك المنتدى. لا يمكن لملتقى أو منتدى أو حتى مؤتمر أو ندوة تهتم بالبيئة أن تكتمل من غير حضورها الطاغي رغم بساطتها وابتسامتها الخجولة- رحمها الله. وبفقدانها تغيب شمس أشرقت لتنير بضيائها عالم الطبيعة البكر في بلادنا، فقد كانت دارين مشروعَ عالمة وناشطة بيئية استهوتها جبال عمان ووهادها ورمالها وبحارها وخلجانها ومائها وهوائها، فذابت روحها مبكرا في هذا العشق الخالد، وفارقتنا مبكرا لتبقى لنا آثار أقدامها وابتسامتها المودعة للأرض والإنسان.

ستظل كل البذور التي جمعتها دارين ورفاقها من كل شبر في هذا الوطن، شاهدة على وفاء الإنسان وحبه لوطنه، وكأني أرى كل الأشجار التي مرت عليها دارين في ظفار حزينة لفراقها؛ فمحبتها للجنوب نابعة من إرث قديم لازم أبيها مما حدا به لتسمية إحدى أخواتها طفول، فهذا الاسم يرمز إلى ظفار، فرغم حديثها عن التصحر والجفاف الذي اجتاح كل شبر من عمان إلا أنها كانت تؤمن بإمكانية العلاج عبر الاستزراع، ورغم الانتقادات التي كانت توجه للرعاة وقطعانهم التي تجوب المراعي إلا أنها كانت تغفر لهم وتجد الأعذار وتقول دارين: "بدون الرعاة لا معنى للحياة فهم الروح التي تدب في شرايين الطبيعة".

لن أعزي "أبو طفول" وأسرته الكريمة فحسب، بل سأعزي كل ذرة تراب في هذا الوطن أحبَ دارين واحتفظ لها بأثر محته الرياح، لكنه ظل موغلا في الأرض العمانية.. سأعزي كل الأشجار والزهور التي مرت عليها دارين برفق ولين لتأخذ صوره وتجمع بذرة تغرسها فيما بعد في كيان الأمل بأهمية البقاء، فكل تلك البذور هي مشروع أشجار ستنمو على جبين الوطن، وستذكرنا دوما بالأيدي التي جمعتها من قيعان الأودية السحيقة ورؤوس الجبال الوعرة.

كم يُؤلم هذا الفقد.. فالمختصون بحماية بالطبيعة عددهم قليل في بلادنا، وكم يصعب التعويض؛ فحب البيئة ليس علم تأخذة من كراسات الدرس ومحاضرات الأساتذة، بل هو حب ملامسة التراب والنوم في الخلاء والاستمتاع بتجليات الطبيعة ونواميسها، وهناك القليل ممن هم على هذه الشاكلة، لذلك عندما نفقد أحد هؤلاء نحس بالفراغ الكبير الذي خلفوه، ونسأل أنفسنا: كم سنمكث حتى نجد روحًا جديدة تهب نفسها لمحبة الأرض؟!

وفي الختام.. لا يسعنا إلا أن نقول وداعا دارين، إلى جنة الخلد، ونعيم لا يفنى، أيتها الفراشة التي غادرتنا قبل أن تزور كل المروج التي كانت تنتظرها.