الاستشراف بين الماضي والمستقبل

فاطمة الحارثية

 

قرأ مُعظمنا عن النجدية زرقاء اليمامة، وعن أساطير محورها كان "التنبؤ بالقادم" والحكايات التي عشناها في القصص والروايات والأفلام، أمتعتنا حيناً وأدهشتنا طياتها سويعات وأيام وربما مازلنا نذكر بعض أحداثها، إذ كان البعض يرسم لنا سيناريوهات المشعوذين والسحرة كمتنبئين لطواغيت الحرب والإبادة، كقصة فرعون والنمرود، عن الأعوام التي أبادوا فيها المواليد في توجس أن يولد طفل ينتزع ملكهم حسبما تنبأ به السحرة والكهنة، من نواحٍ أخرى نجد قصص وروايات حكماء وعلماء "المُستشارين" يقدمون المشورة "استشرافا للقادم" مُستقيين آراءهم من العلوم والخبرات والتجارب.  

 

ربما تتساءل الآن عن الاستشراف؟ وما الفرق بينه وبين علم المُستقبل؟ وهل هو علم حديث أم كان منذ الأزل؟ وما هي مهارات المستشرف ومناهجه وأدواته؟ وهل له صلة بالقدرة على التخيل والابتكار؟ والمواهب التي تُمكِن المستشرف من رؤية المستقبل بأسس علمية، ومدى حضور علم الاستشراف عالمياً وإقليمياً وبكل تأكيد أنواعه؛  يُعرّف المستشرفون الاستشراف على أنه عملية تشاركية ممنهجة، تُصور لك المستقبل القريب والبعيد، مما يُساهم بشكل فعّال في اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ مبنية على بحوث ودراسات منطقية وعلمية "التغذية المرجعية"، وهذا بكل تأكيد يُمكِنك من استباق المخاطر والقدرة على تشكيل المستقبل وقيادة الحاضر بإتقان. إنَّ العبرة أمر مهم في كل ما نأتي به من سلوك، ونتخذ من قرارات في تعاملات الحاضر وبناء المستقبل، فهو يُحدثنا عن تجارب الغير في برهان واضح للأحداث، ومنه نتعلم نوع الأخطاء والإخفاقات التي وقعت، ليس لتجنب تكرارها بل لنجد حلولاً قابلة للتنفيذ بطرق وإمكانيات مختلفة لبلوغ نتائج مقبولة، فما قد نراه نجاحاً نحتفل ونفاخر به اليوم، قد يُعد فشلاً ذريعًا في القادم من الوقت "في المستقبل"، وليس ذلك لأن القرار كان خاطئاً، بل لأنَّ الظروف اختلفت، ولم نستشرف المستقبل لنمكّن المرونة في القرارات ومناهج الاستباق لتنفيذ سلس متغير الطرق والأساليب ثابت الأهداف.

لو نظرنا إلى مناهج التعليم لوجدنا أنَّ الاستشراف جزءٌ هام في طياته، فلقد استحدث في بدايته نظام "الواجب"، ثم تمَّ دفع الطلاب إلى البحوث للاستكشاف والتحليل في مراحل أخرى، وبعدها جاء مفهوم اختبارات الكتاب المفتوح لتعزيز تطبيق "الفهم" كأساس منهجي وهكذا. في المُقابل نجد أنَّ الحكومات والشركات الذكية قامت بتسخير بعض أدوات ومناهج الاستشراف في استراتيجيات نموها، وأيضًا استخدمتها في تقليل آثار المخاطر وضمان استدامتها. إن أسس تطبيق مناهج وأدوات الاستشراف في غاية الدقة، وقد أقول إنِّها ليست مجرد مهارة مكتسبة بقدر ما هو ذكاء تحليلي تم تغذيته بمعلومات صحيحة ودقيقة.

 

إذن قد لا تكون حاسة سادسة أو سابعة أو حتى قراءة فنجان، فسقوط شركات كانت المُسيطرة مثل "كوداك" و"نوكيا" وغيرها لم يكن من باب الصدفة، فهي لم تستشرف المُستقبل بالرغم من أنَّها حاولت، بيد أنَّ محاولاتها كانت تقليدية، وبدون تغذية فكرية كافية لتقدير القادم من ثورة وتكنولوجيا لايُمكن وصفها أنها تنمو بل إنها تهرول سريعاً في تغيّر مستمر. وما اتخذته بعض الدول من وجود هيئات رسمية تعنى بالاستشراف، وأقسام مُستقلة في قطاعاتها الصناعية وشركاتها أيضاً، لهو دليل على حرصها على التأثير واستباق الأمور لتسيطر، وبرهان أنه علم نافع بحد ذاته، يُوجِد توازن اقتصادي ونماء نظامي تشاركي. إن الحلول الاستباقية تُعطي لمفهوم الاستعداد مجالا نافذا، كما وأنَّ بناء السيناريوهات قد يقود الشركات إلى الانفتاح على آفاق أكبر من المتوقع، في تزامن مع إدارة التغيير من أجل التحسينات المُستمرة والسيطرة على الموارد وإدارة المخاطر.

 

للاستشراف "علم المستقبل" أدوات ومناهج متعددة لا يكفي مقال واحد لوصفها، مثل تحليل السيناريوهات، نموذج دلفي واستطلاع آراء الخبراء، المحاكاة، مصفوفة التأثير المتبادل، دولاب المستقبل، التحليل العكسي، التخيل والابتكار وغيرها الكثير؛ وهو أنواع وتخصصات فهنالك الاستشراف الحكومي والاستشراف الاقتصادي والإداري والبيئي والشخصي أيضًا.

 

جسر...

رغم الثراء الفكري، والكم الهائل من الخبرات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والإنسانية وغيرها، مازال الاستشراف وعلم المستقبل في دائرة "التوجس" لدينا، من ناحية أخرى نجد له حضورا ووجودا أكاديميا في دول أوربا، وبعض الدول العربية بمناهجه الاستقرائية والشَرطية كعلم يتم تدريسه ومنح الشهادات الأكاديمية له، ويخضع للتقييم والمراجعة، ويتحمل الموظفون الأكاديميون لدى هذه الدول في هذا المصاف، كافة المسؤولية الإدارية في حالة ظهور تراجع في مؤشرات أدائهم، مثلهم مثل أية أقسام أخرى؛ وعلى عاتق هؤلاء قد تقع مسؤولية وجزاءات الإخفاق في إدارة الأزمات أو ضياع انتفاع من مجالات وفرص لم يتم تحديدها في عروضهم وتقاريرهم، إنِّه مجال واسع جدا يحتاج إلى قبول واهتمام وتمكين.

الموهبة المصقولة والمهارة المكتسبة جزء جوهري في تعريف الكفاءة، فليس كل إتقان جاء من اختبارات نهاية عام أو فصلية.