23 يوليو تبحث عن قابوس!

 

حمد بن سالم العلوي

إنَّ ذكرى ٢٣ يوليو تصادف غداً الخميس، وستحل هذه المرة وللمرة الخمسين، ولن يكون جلالة السلطان قابوس في استقبالها، بل ستأتي هذه المرة باحثة عن صاحبها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المُعظم - طيب الله ثراه - ولن تجده في انتظارها كما كان يحدث في الأعوام الماضية، وإن سألتنا عنه سنقول لها إنه ذهب عنَّا جسداً، ولكن روحه وكل مآثره ما تزال تعيش بيننا، وهو قد أوصنا بالإحسان إليك، ولكن ليس شفاهة يا "٢٣ يوليو" ولكنه فعل ذلك سلوكاً وبالقدوة الحسنة، فالثالث والعشرين من يوليو ظلت وستظل ذكرى خالدة في التاريخ العُماني الحديث، فهو اليوم الذي أشرقت فيه شمس الضحى العُمانية، وارفة بالخيرات والأمجاد، مرصّعة بأكاليل العزة والكرامة والقيم الإنسانية، وستظل عُمان ترقى عُلا المجد عاماً بعد عام، فهذه هي توصيته الضمنية لنا، وكما يقال واللبيب بالإشارة يفهم، ونحن العُمانيين من ذوي الألباب بحمد الله وفضله.

فإن رحل قابوس عنَّا واقعٌ، فتلك سنة الله في خلقه، ولكن النهج القابوسي القويم سيظل مشعل هدى نقتدي به في عُمان، وهو نهج نبراس فخر لنا "كعمانيين" ننشد الثريا به علواً في العزة والمعاني العظام، ولن ننسى قبس عُمان وضياءها الذي أنار لنا خط المسار بعد ذلك التخلف والظلام، فمن لم يعش ما قبل عام سبعين، فقد لا يعرف قيمة النهضة العُمانية المباركة، وقيمة الإنجازات القابوسية على هذه الأرض الطيبة، حيث كانت "السبة بالتخلف" في العالم العربي، تسمى عُمان كدلالة على الجهل والإنغلاق على الذات، ولكن سرعان ما تغير الحال عن ذاك الحال، فوصفت عُمان بالوصف الذي يليق بالبلد العريق المتحضر، ووصفت بأنها مشعل للاستقرار والتقدم والازدهار، والأمن والوئام والسلام، كل ذلك أضحى يُسمى أيقونة الحكمة والسلام "قابوس أو عُمان" فأيهما ورد أولاً فإنِّه ينبئ بالآخر بالضرورة، كمتلازمة طيبة وفي المعنيين سيان.

لست أبالغ إن قلت هناك معجزة، قد حصلت على أرض عُمان، وذلك خلال خمسين عاماً مضت من التطور والتكوُّن والنمو، فقابوس مثَّل أداة هذه المعجزة، لأنه عندما استلم مسؤولية الحكم في عُمان، وجدها أرضاً بكراً تعيش واقعاً من زمن القرون الوسطى، حيث لا صحة ولا تعليم، ولا كهرباء ولا ماء ولا هاتف، ولا طرق ولا مطارات ولا موانئ، ولا أي شيء من الخدمات الأساسية الحديثة، أو أي شيء يمثل سمات الدولة العصرية، وليس ذلك فحسب، وإنما هناك حروب وثورات وأطماع دول كبرى في تقاسم هذا الوطن الراقد على أرفف التأريخ، رغم أنه كان هو التاريخ وهو صانعه، يوم كان الآخرون يقطعون الطريق من أجل لقمة عيش، فكان هذا النائم ينتظر من يُوقظه من نومه وسباته العميق، فكان قابوس الخير، هو ذلك المُوقظ والمُنقذ، ومُتمم البناء على أس عظيم قائم قديم، لا يغفله بصير بالجغرافيا والتاريخ .. فباشر بالتجديد وبناء المزيد، فكان الموعد مع انبلاج فجر يوم ٢٣ يوليو عام ١٩٧٠م.

إن قابوس المعظم - رحمة الله عليه - كان هِبة السماء لعُمان، ومكرمة ربانية لموطن الخير "عُمان" فكما حبا الله عُمان بشعب أبيُّ الخصال، كريم المعاني راجح العقل والفكر، منذ النشأة الأولى لهذا الكون، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمتدح أهل عُمان بكرم الخلق، ونبل السمات والمسلك، فقد قال ذلك؛ عليه الصلاة والسلام يوم أرسل موفداً من قبله لبعض بقاع العرب، فسبُّوه وضربوه، فأتاه شاكياً القوم، فواساه - عليه السلام - بالقول "والله لو أهل عُمان أتيت ما سبُّوك وما ضربوك" وكذلك عندما قرر دعوة أهل عُمان للإسلام، فأرسل إليهم داهية السياسة "عمرو بن العاص" ولم يُرسل خالد ابن الوليد "سيف الله المسلول" لأنه كان يعلم بالوحي وهو الذي لا ينطق عن الهوى، لذلك كان لديه تقييم مسبق عن أهل عُمان، أنهم أهل عقل وعلم وقوة، فلن يصدوا مرسله بقوة السلاح، وكذلك أمر عمرو بن العاص، بأن يكون معلماً وليس والياً على عُمان، وكان وقتذاك يحكمها ملكان في آن واحد، وهذه من عجائب عُمان التي لا يعرفها الكثير من النَّاس، وكان الأمر أقرب للشقاق من الوفاق، ذلك أمام أمر مصيري عظيم فيه تقبل دين جديد، ولكن الأعجوبة العُمانية حدثت فاتفق الملكان على قبول الإسلام، وكذلك تولي نشره بطيب خاطر ورحابة صدر.

إذن؛ هي عُمان بلاد العجائب الحميدة، والسلوك الحسن المتفرد، والسلطان قابوس - رحمه الله - كان ضمن هذه المكرمات الإلهية على عُمان، وعندما يقول جلالة السلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - عنه إنه أعزُ الرجال وأنقاهم، وإنَّ خطاباً واحداً لا يكفي لذكر مناقب وخصال "أعز الرجال وأنقاهم" فهو صادق في ذلك، وكذلك من مكرمات السلطان قابوس على عُمان وشعبها والمنطقة أيضاً، هو اختيار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم لتولي القيادة من بعده، فهذا كالعطاء الذي لا ينقطع مدده، فقد كان خير خلف لخير سلف، وكيف لا يكون كذلك؟! وهو سليل دوح مجد أصيل من سلاطين عُمان العظماء، وهو قد رأى فيه الكثير من الخصال التي تشبهه هو، وتشبه عُمان بالضرورة، وهي سمات نبيلة ولدت معه، وكبرت بهدوء في كنفه الوقور وصدقه وأمانته وتعاليه عن صغائر الأمور، وهو فعلاً سيِّد القوم الذي لا يحمل الحقد، ومن شيمه العفو والسماحة، مع الاحتفاظ بالقوة والعزم والعدل.

إذن؛ نحن نستقبل 23 يوليو، فإن رحل السلطان قابوس، فقابوسنا هيثم على النهج السعيد يمضي، واثق الخطو سلطاناً سيداً، والمجد يمشي خلفه سنداً، فهو المجد والحكمة والطود العظيم، والشعب العُماني بذلك له يشهد، فنم قرير العين سُلطاننا قابوس، فما مات من ورَّث العرش لمن يُشاركه المجد في الرقي بعُمان، عاشت عُمان العز وعاش سلطانها المبجل الأمين هيثم بن طارق المُعظم - أعزه الله ونصره بالنصر المؤزر إنه سميع مجيب قريب - وكل عام وعُمان ترفل بثوب التقدم والتطور والرقيِّ.