عبدالنبي الشعلة **
** وزير العمل والشؤون الاجتماعية بالبحرين سابقًا
كما ذكرنا أمس، فإنَّ المزايا والمنافع المُستحقة للمؤمن عليهم لم تمس أو تخفض عندما حدث تخفيض كبير في مداخيل صندوق الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي بالبحرين في العام 1986، بل حصل عكس ذلك؛ فقد صدرت قرارات ومراسيم وسّعت وصعدت وحسنت من تلك المزايا والمنافع والتي كانت تذيل دائمًا عند صدورها بعبارة "وتتحمل الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي الزيادات الناشئة عن تطبيق هذا القانون".
وفي العام 1995 تسلمتُ مسؤولية رئاسة مجلس إدارة هيئة التأمين الاجتماعي بحكم منصبي كوزير للعمل والشؤون الاجتماعية، وبقيت في هذا الموقع حتى العام 2002، وخلال تلك الفترة؛ وللحق وإرضاء للضمير أقول إنني وجدت أن كل واحد من العاملين في الهيئة من الأطقم الإدارية والفنية وغيرها كان يحرص على الالتزام بكل الضوابط القانونية والإدارية وكل المعايير الفنية والمهنية والأخلاقية.
وكان على رأس الجهاز التنفيذي للهيئة، كما ذكرت من قبل، مديرها العام المرحوم الشيخ عيسى بن إبراهيم آل خليفة، الذي تميز بأعلى درجات الحس الوطني والانضباط والجدية والصدق والأمانة والإخلاص والتفاني، وعندما أقول ذلك ليس هدفي المديح والإطراء، وليس وراء ما أقول أي غرض أو مصلحة شخصية؛ إنما هي الحقيقة التي يفرض الضمير ذكرها وتسجيلها، والرجل قد غادر هذه الدنيا منذ سنوات وصعد إلى جوار رب غفور رحيم كريم.
وكان جهاز الاستثمار في الهيئة يعمل تحت إدارة الأخ حسن بن خليفة الجلاهمة؛ الشاب المهني المتمرس في الأعمال المالية والمصرفية والاستثمارية، الذي وجدتُ فيه، ووجد مجلس إدارة الهيئة فيه الكفاءة والحصافة والدراية الاستثمارية، إلى جانب الصدق والنزاهة والاستقامة ونظافة اليد وبياضها، والذي عين فيما بعد أول رئيس لديوان الرقابة المالية والإدارية، ثم أصبح مؤخرًا رئيسًا لمجلس إدارة مصرف البحرين المركزي.
وبطبيعة الحال، وفور تسلمي لهذه المسؤولية، بادرت بالاطلاع على التقارير الهامة المتعلقة بأنشطة الهيئة والتي كان على رأسها الدراسات والتقارير الاكتوارية التي كانت وظلت ولا زالت الهيئة تحرص على إجرائها بشكل دوري منتظم كما نص عليه القانون.
إن كل الدراسات الاكتوارية التي أجريت قبل تسلمي للمسؤولية وخلالها أكدت الخلل الهيكلي والعجز الاكتواري الذي يُعاني منه الصندوق، نتيجة لارتفاع الالتزامات وانخفاض الموارد، والاتجاه المتسارع لزيادة حجم المصروفات على المدخول، واستنتجت أن هلاك وإفلاس الصندوق هو أمر حتمي للأسباب التي ذكرناها آنفًا إذا لم تتخذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة.
وفي البداية فقد اختلفت التقارير في تحديد العام الذي سيلفظ فيه الصندوق أنفاسه الأخيرة وذلك تبعًا لرؤية كل منها للمستجدات والمتغيرات والظروف المستقبلية.
وإلى جانب التدقيق الداخلي، فإنَّ للهيئة مدققي حسابات خارجيين يقومون بنهاية كل عام بإجراء تدقيق مفصل للحساب الختامي للهيئة، والذي بعد الانتهاء من إعداده يتم عرضه على مجلس الإدارة ويخضع لمناقشات مستفيضة قبل إقراره من قبل المجلس.
وفي الفترة التي كنت فيها رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة كانت المؤسسة المحاسبية الخارجية الموكل إليها مهمة التدقيق السنوي "مؤسسة كي پي إم جي" وهي واحدة من أعرق إن لم تكن الأعرق عالميًا في هذا المجال والأكثرها دقة وحرصًا على الاحترام والالتزام والتطبيق الصارم لكل المعايير والممارسات المحاسبية السليمة، وكان شريكها في البحرين وممثلها في المنطقة وما يزال الأخ جمال بن محمد فخرو، وهو من أبرز الشخصيات المهنية المحترفة في هذا المجال على المستوى العربي والدولي.
وفي حين أن كل الدراسات الاكتوارية الدورية والتقارير المحاسبية السنوية المدققة التي أجريت قبل تحملي للمسؤولية أو أثناءها تضمنت ملاحظات وتحذيرات من مغبة وعواقب استمرار العجز الاكتواري، فإن أيًا من هذه التقارير والدراسات لم يتضمن أي إشارة سلبية لنتائج استثمارات الهيئة أو السياسات الاستثمارية التي تتبعها. فقد كانت نتائج استثمارات الهيئة في نهاية كل عام تحقق أرباحا صافية، وأكررها مرة أخرى: كانت نتائج استثمارات الهيئة في نهاية كل عام تحقق أرباحًا صافية بلغ معدلها السنوي نسبة 7% وهي نسبة تفوق وتزيد على النسب والمعدلات المحددة عالميًا والتي تقع بين 3% و5%، إذ إن الأنظمة والمعايير الدولية المعنية والمتعلقة باستثمار أموال وأصول صناديق التأمينات الاجتماعية؛ وبهدف صون وحماية أموال المؤمن عليهم تُضيق من حرية تصرف المسؤولين عنها، وتفرض عليهم التحفظ الشديد والحيطة والحذر، وتوجيه غالبية أو معظم الاستثمارات إلى المجالات والمشاريع والحقائب الاستثمارية الآمنة البعيدة عن المجازفات والمضاربات والمخاطر، وتجنُب الاستثمار في المشاريع المغرية التي تَعِدُ بفوائد وأرباح مرتفعة، فالقاعدة أنه كلما ارتفع مستوى توقعات المردود ارتفعت نسبة المخاطر وإمكانيات الإخفاق والخسارة، فالعلاقة طردية هنا أيضًا.
كما توصي المعايير الدولية بعدم حصر أو تركيز الاستثمار في مجال واحد أو مشروع واحد مهما بدا مربحًا ومغريًا، والحرص على توزيعها على حقائب استثمارية متعددة، بحيث إذا تعرضت واحدة أو أكثر من هذه الحقائب إلى خسارة لا يتسبب ذلك في إحداث خسائر في المحصلة أو النتيجة النهائية، وقد كانت ولا تزال الهيئة ملتزمة بهذه المعايير.
وفي العام 2003 ناقش مجلس النواب أوضاع صندوق التأمينات الاجتماعية بحضور الوزراء والمسؤولين المعنيين، وخلال النقاش طرح أحد الأعضاء المنتمين لإحدى الكتل الدينية اقتراحًا بإعطاء المرأة حق التقاعد المُبكر بعد عشر سنوات من الخدمة على أن تستحق 80% من راتبها كراتب تقاعدي، لكي تتاح لها الفرصة للعودة إلى بيتها لأداء واجبها المقدس ودورها الأساسي كربة بيت لرعاية الأسرة وتربية الأجيال القادمة، عندها وقف الشيخ عيسى بن إبراهيم آل خليفة مدير عام الهيئة في قاعة مجلس النواب في وجه المُطالبة بمزيد من المنافع للمؤمن عليهم قائلًا إنَّ صندوق التأمينات لا يحتمل مزيدًا من الأعباء وإنه مفلس اكتواريًا.
ضج بعض أعضاء مجلس النواب لهذا التصريح وكأنهم يسمعون به لأوَّل مرة، وطالبوا بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في الموضوع، واتهموا القائمين على الصندوق بالتقصير وسوء الإدارة، ودعوا إلى استجواب ثلاثة وزراء كنت أنا واحدًا منهم بُغية حجب الثقة عنهم؛ وهو حق دستوري مكفول لهم، وعليه وافق المجلس على طلبهم.
وبعد ثمانية أشهر من المداولات والتحقيق والتمحيص الذي شمل الاستجواب والبحث والتقصي والتحري والتدقيق؛ لم تتمكن اللجنة من التوصل أو العثور على أدلة تُؤكد وتثبت الاتهام، فسقط الاتهام وسقط معه طلب حجب الثقة بعد أن حصل على سبعة أصوات فقط من بين 40 صوتًا الذين يشكلون العدد الكلي للمجلس.
وقد أرست الحكومة الموقرة قبل عامين برنامجًا للتقاعد المبكر الاختياري لموظفيها عبر القنوات القانونية، وعن طريق إلغاء الوظائف المستهدفة، وبغرض تقليص عدد موظفيها، وتخفيض المصاريف وإحداث مزيد من الكفاءة في الأداء وإتاحة الفرصة لتدعيم الجهاز الحكومي بدماء جديدة، وهي أغراض وأهداف جوهرية وجيهة تكررت من قبل المطالبات بتحقيقها.
ومن دون الدخول في تفاصيل هذا البرنامج، فقد كانت الحكومة كريمة وسخية إلى أبعد الحدود في عرضها مما جعله جاذبًا ومغريًا بحيث بلغ عدد من انطبقت عليهم الشروط واستفادوا من البرنامج وانضموا إلى صفوف "المتقاعدين قبل الأوان" حوالي 9000 موظف، وهو ما تسبب دون شك في إحداث ارتفاع كبير في عجز صندوق التقاعد الحكومي في العام الماضي.
والآن وبعد أن اتسعت الفجوة بين الاشتراكات والمدفوعات بشكل لا يُمكن ردمها بحلول ترقيعية مرحلية، وبعد أن تخطينا خط الإفلاس الاكتواري ودخلنا مرحلة الإفلاس الحقيقي منذ العام 2012، وتآكلت تدريجيًا الأموال الفائضة التي كانت متوفرة للاستثمار ما أدى إلى اضمحلال عوائد الاستثمار، ووصل العجز إلى 14 مليار دينار، واقترب موعد نفاد أموال وأصول الصندوق العام وانهياره بحلول سنة 2024 أي بعد أربع سنوات من الآن، والصندوق الخاص بحلول سنة 2033 إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، ما يعني حتمية ضياع كل الحقوق والاستحقاقات لكل المؤمن عليهم، وهو أمر لن تسمح بحدوثه قيادتنا الحكيمة وحكومتنا الرشيدة والمؤمن عليهم؛ مع توفر الخيارات والحلول، وإن كان بعضها شديد الألم والقسوة، والتي تضمنتها توصيات مجلس إدارة الهيئة وجاء على أساسها المرسوم الملكي الأخير، ولم يبق إلا إخضاع التوصيات الست الباقية لمزيد من الدراسة والمُراجعة السريعة، وتحسينها إن أمكن، وتنفيذها في حزمة واحدة في أسرع وقت ممكن، إذ لم يبقَ أمامنا متسع من الوقت.