ذكرى خالدة.. وداعًا أيها السلطان

 

علي بن سالم كفيتان

عاد يُوليو للمرة الخمسين وكنَّا نُمني النفس بوجود فارس المسيرة لنحتفل معه بيوم الثالث والعشرين من يوليو المجيد، لكنَّ إرادة الله التي لا اعتراض عليها غيَّبت عنَّا روح القائد التي صعدت إلى السماء وأبقت لنا ذكراه الخالدة في نفوسنا، قال لي أحد الأصدقاء المُخلصين في مسقط لقد أعددت العدة لقضاء بعض ساعات ذلك النهار خارج سور المقبرة، وقال آخر سأشد الرحال إلى قصر العلم لأراقب من بعيد كل حركات وسكنات المكان الذي ظلَّ عرين السيادة طوال خمسين عامًا... بلا شك سنحتفل حتى في غيابك يا حضرة صاحب الجلالة لأنك باقٍ فينا ولم تذهب فكل ذرة من أجسادنا تحمل جزءًا من روحك الطاهرة.

ربما كانت أمنيتنا وأمنيتك أن نحتفل في يوليو بمرور نصف قرن من العدالة والتنمية والاستقرار الأمني في بلادنا فالشعراء قد نظموا قصائدهم وبدأت البروفات الأولية لتسجيل الأوبريتات التي تمجد عهدكم الزاهر الميمون قالوا لي سيكون هناك دخول مهيب للقوات المُسلحة في ميدان الفتح وستعود قوات الفرق الوطنية للميدان ضمن تشكيلات قوات السلطان المسلحة وسيكون هناك حضور لرؤساء دول شقيقة وصديقة والكل سينتظر قدوم جلالتكم الميمون في ذلك النهار المُفعم بالوطنية والشعور بالعزة والشموخ كقامتك التي لا تنحني رغم السنين والمرض لكنها الأقدار أخذتك عنَّا لنحتفل مع من استأمنته علينا بعدك جلالة السُّلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه وأمدَّ في عمره.

هنا في الجنوب سيظل الحداد لوقت أطول لأنَّ الأرض لا زالت ثكلى بفقدك فقد تغيرت معالمها علينا وبتنا لم نعد نفهمها فنمور سمحان اختفت عن كاميرات المراقبة ولم تعد تظهر أمامها وتداعبها بمرح فأنت من أخذت من نمور الجنوب مثلاً فهم لا يأكلون الجيف وإذا انقضوا على فرائسهم أفنوها في ثوانٍ ولشدة ولعك بهم أخذت منهم سلالات لتراها أمامك كل يوم في قصر البركة العامر ذكر لي ذات يوم طبيب بيطري يعمل هناك أنَّ السلطان يجلس أمام النمر لساعات دون حراك مستمتعاً بهذا المخلوق النادر الجميل.

كنَّا ننتظر عودتك إلى ظفار لتأخذ جولة بطائرتك العمودية إلى شرشتي حيث دارت أشرس المعارك لتقلد أوسمة الشجاعة لمن خاضوا تلك الموقعة معك وحتى الذين كانوا ضدك لأنك تحترم الخصم وتضع له حسابات دقيقة فرغم كل ما سال من دماء احتويت الجميع وحفظت كرامتهم فقد تساوى أبناء الشهداء وحظوا برعايتك وعطفك في مدرسة السُّلطان قابوس الداخلية ولهذا جميعهم رأوا فيك الأب والقائد لأنك لم تخلق للانتقام بل لبث السلام والوئام.

عاهدت نفسي أن أمشي خلف حصانك في الثالث والعشرين من يوليو كما كنت أفعل كل عام فينضم الجميع لتلك المسيرة خلفك فالنخيل التي شهدت على ذلك الركب لا زالت شامخة وحقول الموز لا زالت نضرة على طول شارع السلطان قابوس ولا أدري إن كانت الخيول تنتظر معنا هذا الحدث فطالما سمعت صهيلها من إسطبل القادحات قالوا إنَّ الخيول تفتقد أصحابها إذا كانت أصيلة ولعمري إنها كذلك فقد امتطيتها في أعياد ومسيرات فجعلت لها مقاماً رفيعاً لأنك سلطان عربي تعلم قيمة كل أصيل.

لا زالت صيحات سعيد بن جيح من على سيارة البيد فورد تُرددها أصداء جدران الحصن في عصر ذلك اليوم بشَّر الجميع بأنَّ السلطان قابوس تولى مقاليد الحكم فالتفت حوله جموع النَّاس متهللين بهذا الخبر كل ذلك حصل في يوم ٢٣ يوليو ١٩٧٠ في صلالة مسقط رأس السلطان ووصل صداه إلى كل شبر من عُمان وعلم العالم أنَّ ذلك الشاب هو سليل الأسرة الأكثر عراقة بالحكم في جزيرة العرب المسلح بالعلوم العسكرية من أعظم الكليات في الغرب الدارس للتاريخ والأدب والدين الإسلامي العارف بطبيعة قبائل عُمان وتركيبتها المعقدة فاستفاد من كل تلك الميزات لتوحيد بلاده وانتشالها من غياهب النسيان.

ذكراك لا زالت خالدة كخلود أفعالك العظيمة... قلوبنا لم يفارقها ألم فقدك... ففي الجنوب كان مولدك وكان نصرك وكم تمنينا أن يحتضن جسدك.

رحم الله السُّلطان قابوس بن سعيد.